خبر عابر

13.10.2024 מאת: أسعد بدر مغربي
خبر عابر

 

 

 قصة قصيرة خبر عابر

 

 الصّفقة في خطر. المخيم المكتظ يتقيأ البشر. عشيرة البدوان في دوّامة الترحال ديدَنَها الحذَر. أم الست بنات في أوج المخاض تحتضر.

 

زوجها شيخ العشيرة (ابو البنات)، يتعوَّذ ويتوعّد، بانتظار مولوده الذَّكر. الداية الداهية اللّعوب، لأول مرة ..  يُربكها خبَر!؟.
 

 

مع كل رحيل، وفي كل مكان جديد تحط فيه العشيرة مضاربها، يباشر شيخ العشيرة طقوسه المعتادة، يلقي خطاب الجلوس على عرش الصحراء، يستهلّه بتلقين العربان أوامر محددة، وتعليمات واضحة تقضي بمراعاة طبيعة المكان ونوعية الجيران الجدد، وضرورة الحفاظ على مسافة واقية لحماية موروث البداوة وصيانة شرف الأسرة البدوية وتقاليد القبيلة.
 

 

طلباً لوفرة المراعي، ها هي قافلة العشيرة تحطّ مضاربها قريبا من المدينة الصاخبة، والأكثر قرباً من الشريط الحدودي الملتهب، مما اقتضى تكريس جلّ الخطاب على ضرورة الإنضباط والإمتناع قدر المستطاع عن الإحتكاك بالحَضَر، وأسهَب في استنكار سلوكيات أهل المدن، وحذّر من الإنبهار من حريتهم المزعومة التي تحميها أجهزة تتحكّم ولا تحْكُم، إذ يعم الفساد، والغش والرشوة. تحدث عن جشع التجّار، وعن عفن السماسرة، عن تفكك صلة الأرحام، وتناحر المصالح، واقتتال الأخوة، عن التعصُّب الديني، والفَلَتان الأخلاقي، عن استرجال النّساء، عن بائعات الهوى وعن دهاء العرّافات، عن محترفي التسوّل، وقذارة رجال السياسة والسلطة والمال. واختتم خطابه: "العوذة من شرّهُم!!، فأهل المدينة تٌراهم ناس دينهم دراهمهم وديدنهم نسائهم، وعندهُم تستوي الحضارة والدعارة! العُوذَة العُوذَة العُوذَة من سيرتهُم"!!. 
 

 

على مدى ولايته، دأب الشيخ على قيادة إقطاعتيه بِليونة وحكمة سلطة أبوية مقْنعة، قوامها دكتاتورية القرار ودكتاتورية التنفيذ!، وعن طيب خاطر التقت القيادة الفردية مع الطاعة الجماعية.
 

 

الرحيل الأخير كان الأكثر إثارة في سيرة حل وترحال الشيخ، فقد ساورته تحفظات وانتابته هواجس عدة: لم ترُق له مجاورة المدينة، لكن للحصار، وجور الزمان، وضيق المكان وانعدام الأمان ضرورات وأحكام. كذلك فإن زوجته العليلة، أم الست بنات في بداية حَمْل جديد لجنين ينتظره منذ أعوام، ويشترطه ذكراً يحمل اسمه ويرث المشيَخة بعده. هاجس ولادة أنثى إضافية يطارده ويكاد يُفقده توازنه.
 

حط ضَعْن القبيلة.  تتقدمه الجمال المبرشمة، والخيل المسوَّمة. استقرَّ ركب النساء بالزّيّ المطرّز الفاقع، هدأت أجراس شلية الغنم، سكنت شلايا الماع، وهجعت كلاب الحراسة، وباتت الطيور الداجنة، وللتَّو استيقظت مخاوف الشيخ على مصير زوجته المنهكة، وعلى سلامة جنينها، الفارس المأمول الذي ينمو في أحشائها.                                                                  
 

مع تقدم حمل الزوجة تفاقمت حالتها، وأصبح الشيخ أوّل من نقض خطاب الجلوس. طبّع علاقاته مع أطباء المدينة أوّلاَ، ثم وصل إلى سوق التداوي بالرٌّقْية، ومنها إلى فخ العرّافات اللواتي يتصدرن الولائم والمآتم، يُتقنَّ دور قابلة الولادة، وغسل الميِّتة. وبما أنه تشائم من داية العشيرة التي خيَّبت أمله للمرة السادسة، فقد تعاقد مع قابلة لعوب من داهيات المدينة على متابعة حَمل زوجته بعد أن أكدت له عند زيارتها الأولى أن ذكراً همّاماً يقبع في بطن زوجته وأن انتفاخ سرّتها المُرْعب ما هو إلّا بفعل ذَكَر الذّكَر، ودلالة فحولة ناجزة.
 

انقلاب حاد حدث لمزاج الشيخ مساء هذا اليوم العاصف المنذر بليلة ماطرة، فها هي زوجته على وشك أن تضع مولودها السابع؛ الذّكر المنتظر. هكذا أكدت له الدّاية منذ الشهر الأول للحمل، الليلة هي وكل دايات العالم في نظره على المحكّ، فصراخ آلام الولادة يزيد من كربه وتوتره. يرعد ويزبد، يأمر القطروز باستدعاء الداية حالأً، ويقذف في وجهه كلمات مُدغَمة ضبابية، وجمل غير مفيدة محمٌلة بالتهديد والوعيد.
   هرول القطروز باتجاه بيت الدّاية في طرف المدينة البعيد المحاذي للشاطئ، وترك الشيخ يشتُم الحدود، والإطارات المشتعلة، والطقس والبرد والليل وزوجته وبناتها والدّاية وكل إناث العالم و"الرّقم سبعة".

 

مع الغروب وصل القطروز إلى بيت الداية ليبلغها أوامر شيخ العشيرة. احتار من أين يبدأ، كيف يبلِّغها أمر الساعة؟ كيف لكلامه أن يكون صارمأً وحازماً كما فاه به الشيخ؟ كيف يضعها في صورة خوفه وقلقه؟ كيف ينقل لها تهديداته ولغة جسده المرعبة، و نظراته النارية؟…    اخيراً انحلت عقدة لسانه، تلعثم وتمتم، وتدافعت بين حلقه وشفتيه مقاطع كلمات، ونَطق بجُمَل غير مترابطة :  حرم الشيخ مَطْروحة وتْصيح للموت، وناوْية توَلِّد الليلة، وتُرى ما لٌهْ لْزوم نْلِتّ ونِعجِن، هالمرة ذَكَر، وانتي واعْدَة الشيخ من شْهور سالْفَة بْولد ذَكَر يكون سَنَد لْخَواته، ووريث للمشْيخة وزعيم للعشيرة، وعدّاكي العيب يا مبروكة/ قوي وارمَحي صْوب الحُرمَة قبل ما تموت، وبَشْرينا بالخير، تُرى انتي كريمة والشيخ يِستاهل، وتُرى لُهْ عليكي دين وانتي عارْفَة البير وغَطاه.. وتُرى لَوما كان ذَكَر ينمحي ذِكْرِك من البَرّ والبحر، وما لِيكِي عَلِينا لوم!.
 

في طريقها إلى حيث مضارب شيخ العشيرة المتاخمة لأبراج مراقبة الحدود، تهرول المبروكة تسابق ريح كانون، تتجاهل مخاوف التجوُّل الليلي، ومخاطر القَنْص العبثي المعتاد، تتحدّى البرق والرّعد والسّيل والوحل، يشغلها هاجس أقوى وأخطر.. إذ هي تسأل نفسها؟  كيف تورطت وأكدت للشيخ أن الحَبَل السابع لا يخيب؟  وأن شيخاً للعشيرة من صلبه ينمو في بطن زوجته، وجعلته يطْمَئِنّ ويوقن أن المَشيَخة لن تنتقل إلى أبناء إخوته؟ كيف غامرت ودخلت آنذاك في تفاصيل " الرقم سبعة"؟ إذ قالت له يوم عَقد الصفقة : "العدد (سبعة) مْبارك يا شيخ ، وبالسَّبِع بَرَكات.. ذَكَر وسَبِع مولودك السابع، ذَكَر وللوالد طالِع، وسيف العشيرة رافِع، السما سَبِع طبقات، والجَنّة في الطبقة السابعة. أيام الأسبوع سبعة، والخالق في اليوم السابع استراح، وباليوم السابع العريس يرتاح، وعروسته تزور بيت أهلها وتنام هناك وما تغمض لها عين، سنين المَحِل سبعة، وسنين الخير سبعة، وللقِطّة سبْع ارواح، وللحرباية سبْع الوان، وأنا تْحمّلتْ جوزي الخايب سبْع سنين، وطلًقني سبِع مرّات، اتجوّزت الثاني بعد سبْع ايام وسبِع ليالي، وباليوم السابع كَتَبتْ لُه سِحِر، فأعطاني عمره ، وحريتي.. ومات سَبِع موتات"!!.
 

 

 لمعة بَرق أعقبتها صليّة رصاص عشوائية قطعت حبل خيالها، عَزَلتها عن الماضي، وأعادتْها الى جَدِّيّة اللحظة، إلى الخطر المُحدِق الذي يهدد بانهيار تمثيليتها المدفوعة الأجر سلفاً، وفشَل رهانها، فالشيخ الذي فقد ثقته من داية العشيرة التي خاب سعيها للمرة السادسة؛ تعاقد معها، وأجزل العطاء بالدولار الأخضر والذهب الأصفر.  بالمقابل هي أشرفت على الأم الحامل، وفي دَخيلَتها راهنت على حتميّة إجهاض الحمل أو وفاة الحامل. فقد كانت كل الوقت على قناعة بأن حمل الزوجة لن يكتمل، فالغصّة التي لازمتها منذ ولادة أنثاها الأولى جعلتها ضامرة، سقيمة. حزينة، تراوح بين الموت والحياة. فالمسكينة أنجبت ست مرّات خلال خمسة أعوام، وهي على مدى سنوات تتآكل وتتلاشى بين حَمْل ورضاعة ورعاية بناتها، ومعاناة من فظاظة زوج تعتعه اليأس، فكَونه "ابو البنات" فتّ من رجولته وأعطَبَ شهامته، وبدّد حكمته.
 

أصبحت على مرمى بَصَر من شق نساء الشيخ، وكلّما اقتربت تلكأت في مشيتها، فقد أصابتها عدوى اليأس، وفقدت الرغبة في الوصول، وعادت تسأل نفسها: كيف صمدت المسكينة ولم يسقط حملها؟ وبما أنها الآن تصارع المخاض؛ فهل ستجد قوة الدفع اللّازمة للولادة؟، وماذا لو تم وضعها؟ ماذا لو ماتت ونجا مولودها؟ ماذا لو كان المولود أنثى؟ ولادة الأنثى السابعة؛ ألا تعني فشل رهانها ونهايتها الأكيدة؟ 
 

تُراوح مكانها. تمشي خطوة للأمام وخطوتين إلى الوراء. ترددها اللّافت أيقظ شهية قنّاص أضناه مَلَل السَّهَر على برج مُراقبة الحدود…       

 

في الصباح تناقلت وكالات الأنباء بياناً مقتضباً مفاده: الجسم المشبوه الذي راوح قريبًا من السياج الفاصل.. تمّ تحيّيده. (طرعان / الجليل)


 

آمال ابو فارس المربية الاديبة والشاعرة, المسؤولة عن زاوية  المنتدى الثقافي. يمكنكم الاتصال بها  Amlabo@walla.com او على هاتف 0549026108

תגובות

מומלצים