تواصلاً مع ما سبق لنا القول فيه

16.05.2024 מאת: فاضل القاضي
تواصلاً مع ما سبق لنا القول فيه


في  النقد ونقد النقد 
في أدب الأطفال 

( الجزء الثاني ) 

 

تواصلاً مع ما سبق لنا القول فيه ، والتعقيب حوله مما كتبنا ونشرنا من الإدلاء النقدي المختصر باستفاضة مقنَّنة  في ( الجزء الأول ) من  منشور سابق هنا في صفحتنا هذه ، والذي انطلق أساساً من جملة ملاحظات فنية وموضوعية في غاية الأهمية والدقة أوردها في كتابة له الصديق المبدع الدكتور محمد فتحي وطرحها للبصر والتبصير والمناقشة ، والتي بيّن فيها أساساً ومنطلقاً انحصار أو غياب الحراك النقدي ازاء النشاط الفاعل والمتواصل لقصص الأطفال في عالمنا العربي ، والتي يراها – كما ذكر – ( مظلومة نقدياً ، لا أحد من نقادنا يهتم بها أو يتصدى لها ليثري المحتوى ، وهو ما يؤدي – من وجهة نظره – لمشاكل عديدة أورد أبرزها وحدَّدها  في نقاط عديدة ، كنت قد استعرضت وناقشت معقّباً حول ثلاث منها في الجزء الأول من هذا الموضوع قبل أيام خلت ، بذات المدخل والمسمى :

 

 

( في النقد / ونقد النقد / في أدب الأطفال ) ، وأكمل هنا عرض ومناقشة البقية الباقية من تلك الملاحظات المهمة ، والتي أرى وأعتقد أنها لا تخص القصص وتعنيها فحسب ، وإن نطقت بهذا المسمى وحدَّدته علانية في منطوق الكتابة وغاياتها البيّنة في ظاهر المنشور الذي  أثاره ونشره الدكتور فتحي ، بل أنا أرى الأمر أبعد وأشمل من ذلك بكثير ، ومع أنه انطلق من مسمى القصص وعوالمها لكني أرى فيه الأبعد ، والأشمل الذي يأتي ويمر  إلى ما يجب طرحه ومناقشته مع هذه القصص من مداليل وعوالم أخرى تحيط بأدب الطفل العربي وأجناسه مع ما يحيطه من عوالم وقضايا أخرى متعلّقة به على نحو عام ، وهذا ما سرت عليه وانطلقت منه على سعة من الافاضة النقدية بالقول والتفسير والاستقراء هنا في كتابتي هذه  .

 


قبل الدخول في هذا المدخل والتعرض إلى ملاحظات الصديق العزيز  الدكتور محمد  فتحي الأخرى ، لابد من ملاحظة مهمة أحببت ايرادها والتعرّض لها قبل أيّ شيء آخر هنا ، فهي – كما أرى وأعتقد - إطار رؤية موضوعية عامة للاشتغال النقدي الحقيقي في أدب الأطفال ، وأرى من الأهمية إثارتها هنا بالقول : 

 


إن تحمّل مسؤولية النقد الحقيقي ، والاتصاف بسماته الفنية الحقيقية بكل براعة ومسؤولية وموضوعية واقتدار ، ليس بالأمر الهين ، الأمر الذي يجعل التوفيق بنسبة ضئيلة أمام الداخلين إليه ( بتزاحم ) ، لدرجة لا ترى فيها إلا واحداً أو اثنين ، وربما ثلاثة في أقصى الحدود ، من يخرج منه حاملاُ صيده من ثمرة الولوج إلى أعماقه القصية !!.. ذلك لأنَّ حقيقة الأمر هذا لا تدرك بسهولة أمام تدرج المستويات وتباينها في الفهم والاستيعاب ، فتصبح هذه الحقيقة  ملتبسة - حقاً - أمام البعض ، وغير منظورة أمام البعض الآخر ،    كون أمر الأمر هذا شائك ، متعالق مع أكثر اتجاهات الكتابة وفنها ومعاييرها جدلاً وتبايناً وإشكالية وتداخلاً في الرؤى والمناهج والمفاهيم والمعالجات ، ويتطلب الرواء والتروي في القراءة والاستقراء الموضوعيين ، العميقين ، ولهذا دائماً ما نرى الأمر هذا بحرص وحذر شديدين  ، فننظر إليه بدقة متناهية ، متيقّنين من أنه شديد الخطورة ، مع شديد الأهمية ، وهو في الحالتين – كما نرى ونعتقد - أمر محفوف بالمحاذير والإشكاليات والالتباسات والتحديات ، والمراوغات اللغوية أحياناً ، كما ينبغي ، ويحدّه الحذر والتأني والدقة على مدار الاشتغال والوقت ، خصوصاً اذا انطلق من رؤية مهنية وفنية ومنهجية صائبة لا تأخذه ( باللوم لائمة ) ، ولا ينصاع لهذا أو ذاك في القول ، وقوله الفصل ، الحكم في كل اشتغالاته النقدية هي الاحتكام إلى الموضوعية وجمالياتها الفنية والأسلوبية والإدهاشية في اشتغالات الكتابة وفي معطياتها الخصبة للناقد ، لكي ينطلق بذلك منطلقاً صحيحاً في العملية النقدية ، وليأتي النقد بذلك : متجاوباً ، متوافقاً ، متكيّفاً مع العملية الإبداعية الموضوعة الخاضعة له في المجهر النقدي الدقيق ، ليصار بعدها أمام النقد والناقد ، أخذ صفته وتوصيفه الحقيقيين في معاني وآليات وظيفته الحقيقية الصائبة في هذا الاتجاه ، وليسير في الضرورة القصوى ، آخذاً أهميته النصيّة والفنية المساوقة للعملية النصية في الإبداع ، منطلقاً ، بكل جدارة ،  لاكتساب شرعيته الحقيقة في الإبداع ونقده ، من دون لبس أو التباس ، حتى تبرز الحاجة إليه وتبان بوضوح أكيد لتبيان الحقيقة المادية والفنية واللغوية والقيمية والجمالية لأساس وجود أدب الأطفال في عالم الأدب ، من جهة ، وفي عالم متلقي هذا الأدب من الجهة الآخرى ، وهكذا الحال عند حصول التوافق الموضوعي والنفسي واللغوي والجمالي بين هاتين الجهتين يحصل التناسق المطلوب ، والجمال المبتغى والفاعل بين الأدب والمتلقي حتماً ،  والذي ينطلق أساساً من منطلقات راكزة وأصيلة ومهمة ، هي في غاية الركوز والأصالة والأهمية التي تحملها أهمية الموضوع المثار وحيثياته في البحث والتحليل والتبصير الملمّ والمحاط بما يجب من الالمام والإحاطة التي يتطلبها بكل موضوعية وعلمية ومنهجية لا تجافي النقد الحقيقي والمتخصص ، بكل جوانب موضوعيته ، ومنهجيته الواضحة ، في المنطلق ، وفي الرؤى ، وفي التركيز ، وفي القراءة ، وفي التناول وفي التحليل ، وفي تشريح النص تشريحاً كاملاً ، ينطلق من عملية دقيقة ومعقدة ، تأخذ بآلية التفكيك والبناء الكاملين والعميقين لهذا النص ، وبما يجب من الدقة والحرص والمهارة والقدرة في كل ذلك ، ومن كل الاتجاهات التي تحيط عوالم هذا النص وصلة ربطه الفني والأسلوبي والنفسي والاجتماعي والتاريخي بوقائع وواقع أدب الطفل العربي المعاصر في وقتنا الحاضر المعاش ، على أن تأخذ بمرتسمات وارهاصات هذا الواقع وفاعليته بكل جدية وتجدد ، على أن تتحرك رؤى النقد والناقد والمنقود  بما يتيح ويعطي ويجب هذا الأدب المنقود في مسارات اشتغالاته ومنتجاته هنا وهناك بكل ما لها وما عليها سلباً وإيجاباً ، مدحاً وقدحاً ، وبما يعكس حقيقة الواقع والوقائع التي تجسّد ما هو عليه من صورة ومن كيان في الشكل والمحتوى لعوالم أدب الطفل العربي المعاصر في وقتنا الآني !. 
 

 

 

هذا هو – باختصار شديد و مركّز – كما رأيتُ ، واستبصرتُ بما هو ظاهر وغير ظاهر بالكلمات وما وراء هذه الكلمات من المعاني  والدلالات والاستنباطات والإشارات والصور ، التي  كنت قد لاحظتها ورأيتها حقيقة ، من جهة ، ويخيّل إليَّ  مرآها الماورائي ، من جهة أخرى ، في مجمل ما أشار إليه ، وركَّز عليه الصديق العزيز الدكتور محمد فتحي في منشوره ليوم 29 / 3 / 2024  الذي أضاء فيه  صفحة ( كتب أطفال ) لذلك اليوم ، والذي عكس فيه بعض ملاحظاته المهمة والمركّزة والباثَّة للتحفيز النقدي  ، بما يحيط ويختص بالنقد الأدبي الطفلي ومتعلقاته الأساسية المطلوبة بما يجب أن يكون عليه هذا النقد في ملاحقة ومتابعة المنتج الحديث لأدب الطفل العربي ، الأمر الذي أثارني وحفَّزني نقدياً وموضوعياً ، دون سواه من موضوعات أخرى كثيرة تكتب هنا وهناك ، بعضها ما كان عشوائياً غير منضبط في طروحاته ، ولا يمت للنقد بصلة ، وبعضها الآخر ليس من النقد بشيء ، ومنها / البعض الآخر في حقيقته ومدلوله ، ما يأتي مجانباً للموضوعية وللحقيقة في آن ، ومنها ما يأتي من دون مسح فني واعتباري وموضوعي لجوانب كثيرة من منتج أدب الطفل العربي في واقع اليوم ، ومنها ، ومنها ، ومنها ، الكثير الذي يدّعي النقد ولا يصل إليه ، ويتوافق معه أو يأتي به !.. ولهذا وجدتني أتمعّن بما كتبه الدكتور فتحي في موضوعه المهم والمركّز والبالغ الأهمية والضرورة ، هذا الذي شغلني حقاً ، منذ ذلك الوقت إلى الآن ، حتى أثار ذائقتي النقدية وحرّك مسارها باتجاه الكتابة حوله برواء ، والتعقيب عليه ، والاغناء كما يجب لمساره النقدي بما تتطلّبه المسؤولية النقدية والأخلاقية في هذا الاتجاه ، وذلك من أجل التعميم والفائدة ، مع أنني سبق وأن تحدثت بهذا الأمر ، وأشرت إليه وإلى حيثياته وملابساته الواقعة في الواقع الموضوعي لأدب الطفل العربي ، وراجعته مراراً وتكراراً في أكثر من دراسة وحوار ومقالة نشرت هنا وهناك ، إلا أن إشارات الدكتور فتحي كانت قد أعادت إلى الواجهة ما يجب التأكيد عليه والتذكير به على نحو خاص ومركَّز ، انطلاقاً من المبدأ القائل : ( في الإعادة إفادة ) ، وهو ما يجب أن يكون عليه الأمر ، خصوصاً في مسألة  ( النقد المتعلّق بقضايا أدب الأطفال ) !!. 
 

 

 

لهذا تراني مسروراً ، فخوراً بما أتى به الصديق الغالي والمبدع المهني الأصيل الدكتور محمد فتحي ، وعلى وجه الدقة والتحديد بما كتبه  من كتابة لخّص فيها وأشار إلى الأهم من المهم والأبرز مما يعتري أدب الطفل العربي وما يعانيه هذا الأدب من هنات وهفوات وتحديات والتباسات تحتاج جميعها إلى التبصير والدراسة والمعالجة ، وتراني بذلك قد شكرت الدكتور فتحي في الجزء الأول من كتابتي هذه ، معقّباً على ما كتب ، كونه أتاح لي فرصة الادلاء بما يجب من القول وعكس الملاحظة النقدية المتخصصة في تركيزها العملي والعلمي والمهني ، الساعي إلى توسيع مديات  ما يجب أن يثار من القول والنقاش والتحليل في هذا الاتجاه المهم والأهم في غاية الأهمية ، والذي – كما أرى وأعتقد من وجهة نظر نقدية متخصصة – لا يمكن أن تكون لأدب الأطفال أهمية بالغة من دون أن تكون هناك بجوار هذا الأدب أهمية أخرى بالغة الأهمية وأبلغ من أهميتها الأولى لحراك نقده الحقيقي والمتخصص ، ذلك الذي يعكس وعي هذا الأدب والوعي به وباشتغالاته الإبداعية ، ( الفنية والأسلوبية ) ، مقارنة بوعي آخر أكثر عمقاً وتركيزاً في هذا المنظور والمنحى ، وهو الوعي بحقيقة اشتغالات هذا الوعي في المسار الصحيح والمطلوب لمخاطبة الطفل خطاباً جمالياً بليغاً ، والإلمام بما يجب من الاستجابة الواعية والكاملة لحاجات الطفل القرائية والأدبية والفنية بكل جوانبها النفسية والعقلية والسلوكية والوجدانية والخيالية واللغوية ، وما إلى غير ذلك ، وبما يثري هذه الحاجات بعد الاستجابة لها وتحريكها باتجاه ربط الصلة العميقة بالواصل والموصول في الاتصال الواعي المؤثّر والمتواصل بين الطفل والكاتب ، لعكس وترسيخ ماهيات واشتغالات الأثر والمؤثر الفنيين لمنتوج هذا الكاتب في أثر الكتابة عبر مكتوبه البالغ القوة والحسن في فكرته ، وفي شكله ، وفي محتواه ، وفي لغته ، وفي أسلوبه ، وفي صياغته ، وفي شكله ، وفي محتواه ، وفي كل ما يفضي ويؤدي بإفاضاته الكتابية ، الأدبية والفنية ، إلى براعة ما يجب من التميّز والروعة والإثارة في ما يتطلّب ويجب  بتمايزه الفني والأدبي واللغوي والموضوعي في طرائق الكتابة وحسنها المثير والمدهش والخلاق في براعة هذه الكتابة وبالغ أثرها وتأثيرها المطلوبين وصولهما إلى وجدان الطفل ، كما يجب في هذه الغاية وفي الغاية المجاورة الأخرى ، تلك التي لا يمكن أن تكون إلا بكون وجود الأولى ، متلبّسة فيها ، ومنطلقة منها ، ومعبرة عنها في جودة وصفها وتوصيفها ، الفني ، والوظيفي الحقيقي ،  بأحقيَّة الانتماء المهني الصادق لأدب الأطفال الحقيقي في حقيقة رسالته البالغة والمطلوبة التأثير والوصول إلى الطفل المتلقي بكل مهارة وانسجام ، والتفاعل معه بكل اقتدار وايجابية ، وهذا – من وجهة نظري - من بين ما أراد الدكتور محمد فتحي التأكيد عليه في ما أثار من ملاحظات جديرة ومهمة ، والتي كنا تناولنا بالقراءة والتعقيب للملاحظات الثلاث الأولى منها ، ونتواصل هنا بكل اعتزاز مع بقية هذه الملاحظات ، والربط فيما بينها ، منطلقين بذلك ، ابتداء ، من الملاحظة الرابعة ، تلك التي ذكر فيها الدكتور فتحي ، وأشار بالنص إلى : 
 4 - ( إن فراغ الحركة النقدية لكتب الأطفال جعل " الريفيو "  الذي تقوم به بعض الصفحات المتخصصة وكأنه ثقة ، بينما " الريفيو " يخضع لأهواء أصحاب الصفحة أو متجر البيع " الأون لاين " ) . 

 

 


نعم ، في هذا الأمر أثني على هذه الملاحظة واقف مؤيّداً لها بالكامل ، وأضيف إليها ما يجب الاضافة ( توضيحاً ، وتفسيراً ، واغناء ) لأقول بصريح العبارة في هذا القول : إن للدكتور فتحي كل الحق ، وهو يشخّص مغايرات والتباسات واقع حال ( الريفيو ) المتعدد الوجوه والغايات لتلك الصفحات التي تقدم نفسها على أنها متخصصة بأدب الأطفال وكتبهم ( جادة ، صادقة ، أو غير ذلك ) ، وفي مراجعة سريعة بمرور سريع ، بعد متابعة دقيقة وطويلة لهذه الصفحات ، من دون ذكر الاسماء والمسمّيات  ، نجد أنَّ الأغلب منها  بعيدة كل البعد عن أدب الأطفال الحقيقي ، وما مطلوب من هذا الأدب في شغله واشتغاله الفني والموضوعي والنفسي في رسالته الفنية والأخلاقية والأدبية والقيمية الموجّهة للطفل ، وهذا الحال يدفعنا إلى تبيان قصور النقد وغيابه عن تشخيص هذه الصفحات ، تشخيصاً حقيقياً ودقيقاً يبيّن حقيقة وجودها ومدى أحقيتها ، من عدم هذه الأحقية باتخاذ أدب الأطفال منبراً ، أو صوتاً ، أو واجهة ، أو متجراً ، أوغاية ووسيلة لها ، إذ أن غياب الرقابة التقنية والفنية والمراقبة النقدية الواعية عن هذه الصفحات جعل الكثير منها تتمادى في شطحاتها وفي تجاوزاتها على كثير من المعايير والقواعد والأسس والثوابت والقيم الفنية والفكرية والتقنية واللغوية المحدَّدة لأدب الأطفال ، ومنها – كما لاحظنا مراراً وتكراراً  لم تقف عند هذا الحد فحسب ، بل تجاوزته بكثير من  التجاوز !!.. وامتدت في نشاطاتها الملتبسة إلى أبعد من ذلك ، لتنصّب نفسها ( حاكمة متحكّمة ) في موقع الوصاية على أدب الأطفال ، ولتضع بذلك ما يحلو لها من رؤى وقواعد و مباديء وسطور تثير تساؤلات كثيرة وتدفع إلى الاستغراب حقاً ، لما في جوانب منها ما لا يقبله المسار الصحيح لأدب الأطفال ، مستخدمة طرائق وخطوات ودعوات في أغلبها غير خاضعة للعملية الفنية والنقدية الرصينة لأدب الأطفال ، وقد لاحظنا في بعضها منشورات تضج بآراء وأحاديث ودعوات وكتابات ما انزل الله بها من سلطان ، وبالمرَّة هي ، أو أغلبها ، لا تصلح أن تنسب لأدب الأطفال في طوره المعاصر والمتسابق مع تسارع التطورات التكنولوجية التي وسّعت من الهوة بين الطفل وكتابه ، وزادت من حجم التحديات التي يواجهها أدب الأطفال في الواقع العربي الحالي ، والذي يتطلب بذلك أن تكون دهشته شديدة وعالية ، إن لم تتفوَّق على دهشة التكنولوجيا العجيبة فعلى أقل تقدير أن تأتي بموازاتها ، لا أن تعود بنا إلى الخلف عشرات السنين لتكتب وتنشر قصة أو قصيدة بأساليب تلك السنين ، وبلغة مدرسية جافة ومباشرة ، شديدة الوقع على الطفل بصعوبة ما فيها من المفردات والجمل ، وبالمرة نراها تخلو من الخيال والإثارة والإبهار والرقة والعاطفة وغير ذلك مما يتطلبه أدب الطفل الساحر والخلاق في سحره ، هذا إلى جانب ما فيها من ركاكة فنية وأسلوبية تجعلها في مستوى لا يرقى إلى أبسط معايير الكتابة الصحيحة ، إضافة إلى ما فيها من حشو القول ، ومليئة بالنواهي والخرافات والعقد والتعاليم البالية !!..،  وبالنتيجة من ذلك باتت ، بوضعها هذا ، توحي لمطالعها وكأنها قد كتبت قبل خمسين أو أكثر من ذلك من السنين .

 

 

 
ثم هناك ظاهرة خطيرة باتت تلجأ إليها بعض هذه الصفحات فنلاحظها وقد أخذت  مساحة كبيرة في حدود هذه الصفحات تلك هي اقامة الورش والمحاضرات الخاصة بكتابة القصة وتعليمها وغير ذلك ، وإلقاء محاضرة معينة عن أدب الأطفال ، يقدم عليها ويقدمها كتاب  لم تنضج تجاربهم بعد ولم يتجاوز منجزه الكتابي القصة أو القصتين أو الثلاث ، ولم تتجاوز تجربته في الكتابة إلا بضع سنين حتى البعض لم يتجاوز الخمس سنوات ،  ومن الجد والمجيد على من يقدم ورش الكتابة أو المحاضرة العلمية في أدب الأطفال أن يكون جديراً ومؤهلاً ويملك من المعرفة الواسعة من الخزين العلمي والفني والإبداعي ، وله سعة من التجربة الإبداعية التي لا تقل عن العشرين عاماً على أقل تقدير ، مع ما يرافق هذه التجربة من الانجاز المعرفي والعلمي والإبداعي بسعة المنجز الذي يؤهله لذلك العمل ، فليس كل كاتب أصدر كتاباً مؤهلاً للحديث العلمي والفني والتقني بتقنيات الكتابة وفنونها ما لم تكن لديه الخبرة الواسعة ، صحيح  أن هناك البعض من الكتاب ، مع سعة اصداراته التي أصدر أغلبها على حسابه الخاص وتراكمت على تجربته السنوات ، وتحيطه الدعاية والتبجيل من هنا ومن هناك إلا أنه لازال لحد الآن لا يميز بين الدراسة والبحث العلمي عن المقالة في ما يكتب ويتحدث ، وما أكثر هؤلاء في مساحة أدب الطفل العربي ، والذين تروج لهم تلك الصفحات هنا وهناك على سعة ، وقد انطلق البعض للبحث عن الشهرة والظهور عبر هذه الصفحات أو غيرها من المسميات التي يعتقد بظهوره في المقدمة منها سيجعل منه شهيراً بالإبداع والكتابة ، وقد يكون له ذلك عند من يجهل حقيقة الإبداع وأساسه بشكل عام ، والحقيقة الأساسية في هذا الأمر كما نرى ، وكما يقرّه العلم والإبداع والمنطق فإن المبدع الحقيقي يظهر ويتقدم اسمه وإبداعه بسعة ما يقدم من عطاء ابداعي متميز ليكون له المنجز الإبداعي الحقيقي الذي يقدمه للجمهور ، لا أن يعتمد على إدارته لهذه الصفحة أو ذلك الموقع أو تلك المسميات الإدارية التي لا تجعل منه مبدعا مهما صار وتقدم فيها .  

 

 

 

إلى جانب ذلك نرى البعض ممكن لا يعي ولا يدرك الحقيقة الموضوعية والفنية والتقنية والاجتماعية التي يتطلب من الصفحات الرصينة الغاية والأهداف في مسمى ما تنطلق منه في أدب الأطفال ، وقد وقفت مراراً وتكراراً في حالة من  الاستغراب الشديد أمام بعض ما بروج فيها في بعض الأحيان ، مثلما طالعت من ذلك مؤخراً إعلاناً غريباً يقول بالنص : ( إلى الأعضاء المميزين ، أبحث عن مؤلفين لقصص أطفال أو من لديه قصص أطفال جاهزة مميزة للنشر الرجاء ترك تعليق ) !!.. يا للعجب ، معقول وصل أدب الأطفال إلى هذا الحد ؟.. بهكذا دعوات تجعل منه مجرد بضاعة شأنها شأن البضاعة الأخرى التي تطلبها من السوق أو من مطعم معين ليسارع  ( الدلفري ) إلى الاستجابة لك وتوفيرها !!. معقول هذا ؟.. يا للغرابة ، والأغرب من ذلك أن هناك من استجاب له بالتعليقات المتعددة عارضاً له مالديه بكل بساطة دون أدنى تمحيص ، ولكن مع هذا ، والذي قطع الطريق أمام هذه الدعوات وقوف الواعين من رصانة الكتّاب باستهجان هذه الدعوة ورفضها ، وهذا ما عزز من ثقتنا بوجود الرصانة ورقابتها على جوانب من هذه الصفحات ، وكان من بين ذلك ما عبر عنه الدكتور محمد فتحي من شجب لمثل هذه الدعوات وطالب برفضها وعدم التعامل معها ، وهذا هو المطلوب لبقاء صفحات أدب الأطفال رصينة ، ناصعة التألق . ولا تخدم أشخاصاً بعينهم بقدر ما تعمل وتسعى لخدمة أدب الأطفال بكل قضاياه .
 

 

 

هذا الأمر لا يشمل بقية الصفحات ، نعم ، هناك صفحات لائقة ، نعرفها جيداً ، وهي على قلتها ، ذات صبغة مهنية ، وجدير بها الوصف والتوصيف بموصوفات وصفات أدب الأطفال ، نكنّ لها التقدير والاحترام لمساعيها المخلصة لتوسيع مساحة الاهتمام والتعريف بأدب الأطفال الحقيقي ، غير أن ما نؤكد عليه هنا هو واقع تلك الصفحات  ( العشوائية ) التي لا نعرف صلتها الحقيقية بأدب الأطفال ، وما أكثرها ، وقد سمح لها الانفتاح التكنولوجي بفتح الأبواب على سعتها أمامها ، وبات كل من يهوى الكتابة أن يفتح له صفحة من هذا القبيل ويدعو الآخرين إليها ، فتجدهم كثرة كثيرة تجاوزت الآلاف ممن يدّعون الكتابة للأطفال دون أدنى موهبة ولا دراية ولا خبرة ،  إلا بحثا عن ( شهرة فارغة ) ، وإشباع رغبة ذاتية بالكتابة للطفل ، وهي لا تأتي - غالباً - بما يتطلب من النتائج ، في مصنع الكتابة هذه ، والتي يفترض أن تعزز دائما بعين واثقة وثاقبة ومدركة وواعية من النقد ، في أشكاله ومناهجه المتعددة ، بحسب تعدد الرؤى والأساليب الابداعية للكتابة ، والتي يتطلب من النقد ازاءها أن يأتي متلبّساً لأوجه متعددة من اشتغالات أدب الأطفال وانعكاساته المتباينة ، في الذائقة وفي الرؤية النقديتين ، والتي يأتي بعضها ( متوافقاً ) مع منطوق هذه الاشتغالات ومهاراتها في المنتج  ، والبعض الآخر يأتي متنافراً كل التنافر مع منتوج هذه الاشتغالات ودلالاتها الفنية واللغوية ، إلا أن الأمر هذا – مع ذلك - في الحالتين يكتسب شرعيته السوسيولوجية والأبستمولوجية والسيكولوجية المعبرة بخصوصية ما يجب الاشتغال فيه وعليه ضمن حدود المحدد من المنطوق الفني واللغوي الآتي بمظهرية أدب الأطفال في عموم ظاهرته الفنية ومظاهره الأدبية المقنَّنة شكلاً ومضموناً على وفق قياسات متعددة ومتدرجة لا حياد عنها ، كما يتطلب من هذا الأدب ، وكما هو محكوم به ، وما يجب الاحتكام إليه والحكم عليه في العملية النقدية المتساوقة مع هذا الأدب ، إذ أن هذا الأمر كان قد أخذ بعض الحيز في المساحة الواسعة من اشتغالات أدب الأطفال ، في الكتابة ، وفي المنتج ، وفي العرض ، وفي الطلب ، وفي التلقي ، وقد تباينت الآراء واختلفت ، توافقاً وتنافراً في الوقت ذاته ، وهذا – كما أرى وأعتقد – أمر طبيعي ووارد ، كونه ينطلق من اختلاف المستويات الثقافية ، والإدراكية ، وطريقة فهم هذا المستوى عن ذاك ، وتباينه في الفهم والاستيعاب ، وفي حدود ومستويات الذائقة القرائية التي تتقدم لتناول هذا أو ذاك الطبق في مائدة ما معروض ومقدم من أدب الأطفال أمام الجميع ، لكن الأمر هذا ظل غائباً عن الوعي العام لأغلب  صفحات التواصل الاجتماعي ، تلك التي تنسب إلى مسمى ( أدب الأطفال ) ، وكان الأولى بها أن تعي وتدرك معايير التوافق الأساسية بين المنظور الفني للإبداع وبين المنظور النقدي لهذا الإبداع ، ومع هذا ندرك تماماً أن الذائقة متعددة الأوجه ، ولا يمكن في هذا أن يتوافق الجميع ويتطابق في الرؤية وفي التلقي وفي الملاحظة وفي الرأي ، لكن الأمر هذا حتما سيصل فيه التوافق ، وتتوافق الذائقة  أمام ما يأخذ مساحته الفائقة من الدهشة والإبهار وسحر الابداع وتمايزه الواضح في الفكرة ومنطوقها المجسَّد في عوالم النص الكتابي ومعموله الفني في مظهرية الكتاب ، الذي يعكس  ( للرائي / المتلقي ) حلاوة العمل وحسنه - كتابة وصنعة – يعكسها الأسلوب المميز في بناء الفكرة العبقرية  ، الآتية ، حبكاً ، عبر صياغات خاصة تأخذ  بنسيج اللغة ومنطوق التحليل طريقاً واضحاً تعبده الدهشة والإثارة والإبهار لاغراء المتلقي وتحفيزه إلى السير في هذا الطريق حتى نهايته والوصول بذائقته إلى درجة من الاشباع النفسي والجمالي الذي يتيح له التوافق مع هذا العمل والتجاوب معه بدرجة واضحة من درجات التوافق ، التي قد تأتي بأدنى الدرجات عند هذا المتلقي ، ولا تأتي إلا بأوسط الدرجات أو أعلاها عند متلق آخر ، وهكذا التباين والاختلاف ، في المنظور وفي التلقي ، وفي الاستجابة ، وفي التأثير ، غير أن ذلك كله لا تتضح معالمه ، وتظهر نتائجه إلا بذائقة القدرة النقدية الثاقبة والمهنية والمتخصصة والفاعلة بفعل ما يريده أدب الطفل الحقيقي من التجاوب وفهم عوالمه ورموزه ودلالاته ، الظاهر منها والخفي ، وهذا لا يدركه ويأتي به إلا النقد الحقيقي والواثق المعمق مع عمق المنتج الحقيقي لأدب الأطفال . 
 

 

 

من هذا المنطلق والمنطق ، نرى أن الكثير من الكثير الذي كتب عن أدب الأطفال على أنه نقد ( بادعاء النقد ) ، والذي نطالع منه الكثير في بعض  منشورات ( صفحات أدب الأطفال ) ، ما هو إلا كتابات انطباعية ، قولية ، استعراضية ، تستعرض الكتاب وتعرضه ، ولا تعرض لما وراء ما يدل عليه ( ظاهراً وباطناً ) ، وكذلك ( غوصاً وإبحاراً ) في لجة النص ومعطياته المباشرة في القراءة الظاهرة ، وغير المباشرة ، المضمَّرة ، أو المخفية في ماورائية هذه القراءة ، والتي انطلق منها الكاتب وظمّرها في مخيلته وفي تلبّسات جمله النفسية والانفعالية واللغوية التي تفترشها وتعرضها مساحة الكتابة النصية ، وكل هذا وغيره في واد وواقع بعض ( صفحات أدب الأطفال ) في واد آخر ، ولو أتينا إلى ما لدينا من ملاحظات ومؤاخذات على هذه الصفحات ، وغير ما أشرنا وذكرنا أعلاه ، سنجدها كثيرة للغاية ، قد لا يسع المجال لها كلها ، وقد نأتي إليها في مناسبة تسع لها ، وفي كتابة أخرى أكثر مساحة لها !. 
 

 

 

وتتابعاً مع ما أشار إليه الصديق الدكتور محمد فتحي في ملاحظاته الدقيقة ، يأتي قوله في الملاحظة الخامسة بالقول : - 
5 – إنَّ القصص الدينية تبدو وكأنها مكتسحة وفي مقدمة الاهتمامات ، ولا يهم كيف كتبت ، أو كيف عالجت الموضوع ، ويكفي أنها قصة دينية . 

 

 

 

نعم ، هذا الأمر يسود ويتسيَّد في كثير من جوانب العرض والطلب في مساحة كتاب الطفل هنا وهناك  ، لكنها ليست قاعدة ثابتة ، ويكاد الأمر فيها يأخذ منحاً بيئياً ، اجتماعياً ، ثقافياً ، وحتى دينياً أيضاً ، يختلف من مكان إلى آخر ، ليكون الأمر فيه نسبياً نوعاً ما ، فما نجده على سعته هنا قد لا نجده كذلك في مكان آخر ، لكن الأمر هذا في الحالتين له حضوره وسطوته في ذائقة التلقي لأسباب عديد قد يطول شرحها والخوض فيها من الناحية الفكرية والثقافية ، لكننا يمكن هنا أن نشير إلى مسألة مهمة وحاسمة في هذا الأمر ، وهي أن الدين والقيم الدينية هي جزء لا يتجزأ من مكونات المنظومة الثقافية الأصيلة والرصينة للفرد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، ولا يمكن لهذا الفرد ، بأي حال من الأحوال ، أن يتجرد من الدين ومن قيمه الدينية ومن اندفاعه المتواصل للاستزادة من فيض هذه القيم ومعانيها وصلتها بأصالة الفرد بإيمانه وفكره وثقافته ، ليكون ذلك بمثابة الحاجة الأساسية والضرورية ضمن الحاجات الملحة في منطلقات وأساسيات التنشئة الاجتماعية والثقافية للأفراد بصورة عامة وللأطفال على نحو خاص وأساسي ، للانطلاق في ذلك بكل دقة ومسؤولية لإتمام عملية  البناء الفكري والثقافي والتربوي لهؤلاء الأطفال في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، ولهذا تجد معظم دور النشر العربية المعنية على وجه التحديد بكتب الأطفال ، تحرص وتسعى إلى الاستجابة المتواصلة لهذه الحاجة ، وراحت تتسابق إحداها مع الآخرى ، بدأب متواصل لتقديم القصص الدينية للأطفال بأشكال متعددة ، ولكن ، كثير من هذه القصص تأتي تقليدية ، مباشرة ، ، وكأنها منقولة ، مستنسخة ، هذه عن تلك ، ولا تمايز في ما بين هذه القصص من ناحية  الكتابة والأسلوب والتصميم والرسم والعرض إلا ما ندر ، بينما موضوع القصص الدينية موضوع خصب ويحتاج إلى قدرة فائقة في الكتابة والعرض ، وفي اللغة والأسلوب وحتى في الرسم ، حتى تثير القاريء الصغير وتثري مخيلته وقدرته القرائية على التفاعل والاستجابة ، ولكن للأسف الشديد نرى معظم قصص الأطفال الدينية متشابهة ، مباشرة ، وإن اختلف الناشر والطبعة وغير ذلك ، وقد تكون لي  وقفة نقدية أخرى لهذا الموضوع تتناولها بسعة أكبر . 
 

 

 

أما الملاحظة المهمة الأخرى للدكتور محمد فتحي وهي السادسة والأخيرة في عداد الملاحظات التي أشار إليها في معرض كتابته ، فقد أتت ليقول فيها التالي : 
 

6 – إنَّ المحاباة أو الترصد يصبحان معياراً لدى البعض ، فصديقي سأشكر في قصته ومن لا أعرفه أو من أنا على خلاف معه سأستبعده أو أنال من قصصه ، ووسط كل ذلك تغيب المعايير ، تغيب الحركة النقدية ، تبرز أسماء تستحق وأسماء لا تستحق ، وتتحكَّم ذائقة الأم أو الأب وليس ذائقة الطفل نفسه الذي كتبت القصة لأجله ، والموضوع يحتاج إلى نقاش مثمر ، وحشد لفكرة أن يكون هناك نقّاد متخصصين في أدب الطفل ، وتشجيع حقيقي على إبداء الآراء الحقيقية وليس الأهواء .
 

 

 نعم ، كل هذا الذي حشّده الدكتور فتحي من آراء وأفكار وإشارات في هذه الملاحظة المهمة والجديرة والحقيقية هي في غاية الدقة والوضوح والمصداقية والوجود في واقع أدب الطفل العربي ، وهذه الملاحظة وحدها تحتاج إلى سعة كبيرة من التعقيب والنقاش والإضافة والتحليل العميق الذي يأخذ بها إلى غاياتها ومراميها الجادة والحقيقية من التبصير والملاحظة والاهتمام ، لكن الملاحظة هذه بما فيها من أفكار واتجاهات ورؤى متنوعة ، لا يمكن أخذها ومناقشتها بما هي عليه الآن من عمومية ، وأرى ، كما يجب ، أن أقسّمها محورياً ، وأفصّلها نقديا كما يتطلب المنظور الفكري والاستقراء النقدي الدقيق لها بنقاط عدة ، أنطلق من الأولى كالتالي : 
 

 

آ : ذكر الدكتور فتحي في مقدمة هذه الملاحظة بالقول مشيراً إلى : (  إنَّ المحاباة أو الترصد يصبحان معياراً لدى البعض ، فصديقي سأشكر في قصته ومن لا أعرفه أو من أنا على خلاف معه سأستبعده أو أنال من قصصه ، ووسط كل ذلك تغيب المعايير ، تغيب الحركة النقدية ، تبرز أسماء تستحق وأسماء لا تستحق ) . 
 

 

 

هذا صحيح كل الصحة ، وهو الوارد والمتعامل به عند البعض في واقع أدب الطفل العربي ، والذي يكاد أن يشكل ظاهرة بارزة الملامح ولها من السعة الكبيرة في مساحة هذا الواقع ، لتصبح قاعدة راسخة عند البعض في سلوكه وفي نظرته وفي تعامله ، ولهذا أسباب عديدة لا مجال للتعرض لها هنا ، لعل منها الغيرة والحسد وقلة الخبرة أيضاً ، ولكن أمرها بهذا السلوك وهذا المنحى لا يتأتى من كاتب أو أديب أو ناقد أمين ومسؤول وصادق مع نفسه ومع تجربته ومع قدرته قبل أن يكون هكذا مع الآخرين  ، المحاباة لا تأتي من ناقد موضوعي وحقيقي ، كذلك الترصّد الذي لا يأتي إلا من نفس مريضة لا علاقة لها بالنقد الصادق ولا بجمال الرأي ونبل القول ، فكم هناك من قصة أو قصيدة أو كتابة لا أعرف كاتبها ، ولكنني عرفت فيها جمال الكتابة والأسلوب فكتب عنها مشيداً ومشجّعاً ، مثلما هناك من بين أصدقاء لم يرق له رأيي بما قلته في قصة أو قصيدة له ، وهناك من يعرف حقيقة ذلك !!.. نعم ( المحاباة والترصد ) لا يتَّصف بها إلا ضعاف النفوس والمواهب ، ومن تشتعل في نفسه نار الغيرة والحسد ، ولا يطول سمة الإبداع الحقيقي ، ولكن البعض من ذلك غير منظور لعين النقد ومنطلقاته في كثير من الحالات ، ولكنه منظور ومحسوس بسعة عن المتابع الدقيق لواقع المكتوب والممارس والمعاش في الواقع العام لأدب الطفل العربي ، وقد وصل الأمر بحالتي ( المحاباة والترصد ) عند البعض ممكن يتحركون وينشطون في مساحة الكتابة للأطفال أن يستدير بنظره عن الابداع الحقيقي لمبدع راسخ وحقيقي في الواقع ، أو قد يكون زميلا له في مسار الكتابة ، فلا يكلف نفسه الإشارة إليه الإشادة الحق كما يجب ، بينما تراه ينظر باعتبار إلى آخر أو أخرى ليس لها إلا خطوة أولى في طريق الإبداع ، فيحابي بما يتفوّق على المحاباة نفسها ، لغاية ليست خافية عند الكثير !!.

 

 


كل هذا وغيره الكثير لم يأت عليه النقد الحقيقي ، في أوج اشتغالاته الفاعلة والمنفعلة مع هذا السلوك أو هذا التصرف ، أو هذا الموقف أو ذاك من  ( المحاباة والترصد ) ، أو من هذا النص أو ذاك ، إلا ما ندر ، وهذا الذي نقوله هنا ( إلا ما ندر ) لا يأتي إلا شحيحاً ، متقطعاً بين حين وآخر ، كونه يأتي من طاقات محددة ومحدودة في اشتغالاتها ، تبعا لمساحة التحفيز والرعاية والاهتمام ، الأمر الذي يدفعنا إلى التسليم بحقيقة غياب النقد الحقيقي عن أدب الأطفال عموماً ، سواء الحقيقي منه أو المدّعي بلباس هذه الحقيقة ، ومع ذلك عندما يبرز الناقد الحقيقي أمام الجميع في ساحة الميدان ، لا نجد من يدفع به إلى التحفيز وإلى تقدير ما يبديه من شجاعة الرأي وجرأة القول في الرديء من المنتج ، وفي الحسن البين من هذا المنتج إلا في مساحة ضيقة من الضوء ، التي تحاصرها – في كثير من الأحيان – المساحة الشاسعة من العتمة تلك التي دخلت إلى ميدان أدب الأطفال دخولاً عشوائياً أحدث الفوضى ووسّعها في هذا الميدان إلى حد اثارة الغبار وذره في بصر وبصيرة البعض ، وجعله لا يرى بعين الوضوح إلا من هو أمامه قائماً بادعاء انتسابه لأدب الأطفال ، دون سعة من الخبرة ومن المنجز ، مما جعل التخبط واضحاُ وقد أخذ أثره وتأثيره الواضح في عوالم أدب الطفل العربي ، والأسباب في هذا ، إلى جانب ما أشرت إليه كثيرة لا مجال لاستحضارها جميعاً هنا !!. 
 

 

 

ب : النقطة الثانية التي أشار إليها الدكتور فتحي في متن ملاحظته السادسة هي قوله  بالإشارة إلى : ( ... وتتحكَّم ذائقة الأم أو الأب وليس ذائقة الطفل نفسه الذي كتبت القصة لأجله ) . 
 

 

هذا صحيح ، وهو السائد لدينا في أدب الطفل العربي ، فالأم أو الأب هما الوسيط بين الكاتب والطفل ، على عكس ما هو سائد في المجتمعات الأخرى ، حيث لا وسيط بين الكاتب والطفل ، والأم والأب يساعدان الطفل ويدلّانه على كاتبه ليبدأ معه الحوار المباشر فيما يريد وما لا يريد من الكتابة بينما لدينا لا مجال لتلك العلاقة المباشرة بيم الكاتب والطفل ، والطفل يتلقى أدبه وكتب أدبه باختيار الوسيط ( الأم / الأب ) لا باختياره هو بنسبة كبيرة جداً ، وهذا الحال دفعني إلى دراسته دراسة علمية ميدانية من منظور البحث العلمي ومن منظور الاستقراء النقدي المركّز والمعمّق فانتهت الدراسة بصدورها  في كتاب مهم وواسع ب ( 526 ) صفحة من القطع الكبير بعنوان ( كيف نقرأ أدب الأطفال ) ، تبنَّته مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع في عمان ، الأردن وصدر بطبعته الأولى عام  2011 ، وهو موجّه للوسيط  من الآباء والأمهات ، أدعوهم فيه إلى قراءة أدب الأطفال حتى يتمكنوا من اختيار الأفضل والأنسب منه لأطفالهم . 
 

 

ت :  النقطة الثالثة ، الأخيرة ، التي استنبطتها من ملاحظة الدكتور فتحي السادسة هي تلك التي أشار فيها بالقول : ( ... والموضوع يحتاج إلى نقاش مثمر ، وحشد لفكرة أن يكون هناك نقّاد متخصصين في أدب الطفل ، وتشجيع حقيقي على إبداء الآراء الحقيقية وليس الأهواء ) .
 

 

نعم ، وهو كذلك ، هذا الموضوع يحتاج إلى نقاش مثمر ، بعيداً عن الأهواء ، ويأتي بآراء نقدية حقيقية وشجاعة وموضوعية ، ولكن هناك من لا يريد ذلك أبداً ، ومن هنا كنت أقول وأكرر دائماً ، وبصراحة متناهية : هناك من لا يدرك حقيقة النقد الحقيقي في أدب الأطفال ، ولا يريد أن يدرك ذلك ، وبالمرة لا يريد أن يتعلم مفردات هذا الادراك لكي لا يصدع رأسه – كما يرى ويعتقد  بمطرقة النقد ، كما يحلو له وصفها واعتبارها ، كونه غير معني بمهنية النقد ومعاييره لعدم استجابة ما يكتب لهذه المعايير ، بل هناك من لا يريد أن  يقرأ أو يسمع بوجود نقد حقيقي يلاحق منتج أدب الطفل الحقيقي ، ولي شواهد في هذا الاتجاه لا مجال لعرضها والتعرض لها بالكامل هنا ، لكي لا يطول الأمر ويتشعب ويأخذ أبعاداً أخرى من القول والتمثيل والكشف ، ويكفي أن أشير إلى بعض البعض من ذلك ، ومن دون ذكر الاسماء ، مع تجنب ايراد كامل الوقائع بالتصريح ، فألجأ إلى التلميح بعض الشيء ، احتراماً وتقديراً للخصوصية ، ومن ذلك :  فقد وجدت الكاتب الفلاني وقد ألغى  صداقتي معه ، كوني تحدثت معه بكامل الصراحة والموضوعية والأمانة العلمية حين أخبرته أن ( قصته ) التي كتبها بهذا الأسلوب لا تصلح للنشر ، كونها بوضعها الحالي لا تتناسب وتلقي الطفل ومخاطبته كما يجب ، إحداهن كنت أتجنب ابداء الرأي لها بما تكتب وتنشر ، وأجد أن متابعيها والمعلقين لها أكثر من المتابعين والمعلقين لي أضعافاً مضاعفة ، وبعد الحاح منها أخبرتها بما لا يقبل الشك : ( قد تصلحين لشيء آخر من الكتابة إلا الكتابة للأطفال ) ، فما كان منها إلا أن غضبت مني وانتهى الأمر بالغاء صداقتي كما قررت !!..  وأخرى حين وضحت لها ما مطلوب من كاتب الأطفال وما يجب أن يتَّصف به ويتَّخذه  من قدرات ومعايير وطاقات ، وما قرأته لها من نماذج كتابية لم أجد فيها ما يؤهلها للاتصاف بموصوف الكتابة للأطفال ، فما كان منها إلا أن قابلتني وردت بقولها : ( أنا أحق منك بالكتابة للأطفال ، كوني أم ومعلمة روضة !!) .. لم أجبها وتركت الصمت يجيبها ، وأخرى أصرت أن تنشر القصة التي أرسلتها لي ، وهي أول محاولة تكتبها وبالمرة هي غير صالحة للنشر ، وقد أشرت إليها أن تعيد فيها النظر مرة أخرى وأخرى ، ولا تجازف بنشرها الذي تصرّ عليه ، لكنها أصرت بالنهاية ودفعت مبالغ للرسام وللناشر وأتتني فرحة مزهوة ، لا تسعها الدنيا من السعادة بنشرها القصة في كتاب ( مبهر) كما تقول ، وكأنها بذلك تدين رأيي الذي قلته لها بشأن هذه القصة وعدم صلاحيتها ، لكنها بعد أشهر من ذلك أتتني خائبة ، حزينة ، باكية ، فالقصة التي نشرتها لم ترجع عليها بالفائدة ، ولم تجن منها ما توقعت من الشهرة ، وما أرادت من الربح ، ولا حتى ربع الربع من المبلغ الذي صرفته ، ومع ذلك لم يجد فيها من أطلع عليها ما يثير الدهشة ويتناسب مع ما هو مطلوب من القصة المعاصرة لطفل اليوم ، فطلبت مني حلاً يحفظ لها ماء الوجه ( ككاتبة في بداية الطريق ) ، وماذا عليها الآن أن تفعل بالقصة وقد بارت وخاب ظنها فيها ، قلت لها انسي أمر القصة هذه ، وعليك الاستفادة منها للتحفيز الصحيح ، وحاولي مجدداً كتابة أخرى وأخرى ، وأخرى أيضاً حتى تصلي إلى الأنضج والأحسن من كل ذلك ، كما عليك  أن تفكري ألف مرة ومرة قبل أن تقدمي على نشر ما تكتبين ، فليس المهم الآن بالنسبة لك هو النشر ، والمهم هو النضج والتميز الذي يستحق هذا النشر !!.. صديقة أخرى تدرس أدب الأطفال في مرحلة الدكتوراه ، أرسلت لي كتاب شعر للأطفال وطلبت مني ابداء الرأي فيه ، وقد وجدت الديوان هذا  في غاية الأناقة والجاذبية والجمال من ناحية الرسوم والتصميم والطباعة فحسب ، لكنه غير ذلك من ناحية اللغة والأسلوب والإيقاع والأفكار وو !!.. فأخبرت هذه الصديقة وقلت لها بالحرف الواحد : ( اخبري هذا الشاعر أن يبتعد عن الكتابة للأطفال فهو لا يصلح لهذه الكتابة !! ) ..  
 

 

هذه بعض البعض من كثير مما نرى ونطالع ونلقى ونواجه ، مما هو في ساحة أدب الأطفال العربي وما يحيطه من الكتبة والكتاب ، منهم الحقيقي ومنهم غير الحقيقي ، وما أكثرهم ، هؤلاء الذين يعدون في العدد الأكبر ، من الذين يتزاحمون على أبواب أدب الأطفال دون دراية ومعرفة وموهبة وقدرة ، فالكل هنا يريد أن يصبح كاتباً للأطفال ، شاءت موهبته أو لم تشأ ، مع أن الموهبة وحدها غير كافية ، وبينها وبين الكتابة الناضجة مساحة كبيرة !. 
 

 

 

هذا الحال يدعونا أحياناً إلى تجنب الدخول إلى معترك النقد في بعض الحالات ، فالبعض من الأصدقاء والصديقات ما أن نبدي لهم رأياً صائباً يراه على غير ما نحن نراه  ، فيجده تحييداً له ، بينما بالمقابل هناك صورة مشرقة من كتّاب حقيقيين وكاتبات حقيقيات تصر على أخذ رأيك بما كتبت لثقتها العالية برؤيتك وبما هو عليه رأيك من الموضوعية والدقة ، كما حدث ذلك مع كاتبة عربية راسخة وكبيرة أرسلت لي نص روايتها لليافعين قبل النشر لإبداء الرأي ، فقلت لها أنت كاتبة كبيرة ولك اسمك الراسخ ومنجزك الحقيقي في أدب الطفل العربي ، قالت دعك من كل ذلك ويهمني رأيك وملاحظاتك في عملي ، وفعلا هذه هي الكاتبة الحقيقية التي كبرت جداً في نظري مثلما هي بالفعل كاتبة كبيرة ومهمة تستحق الاشادة والتميز، وقد وجدت في روايتها كل معاني الإبداع والدهشة والتميز ، وافتخرت بسرور بالغ أن هذه الرواية بعد نشرها نالت جائزة عربية كبيرة تستحقها بجدارة، وكاتبة أخرى متميزة وصديقة أخرى سارت نفس المسار بإرسالها لي بروايتها المهمة قبل النشر ، والتي نالت التقدير الكبير والإعجاب الذي تستحقه بعد النشر ، وهذا هو الفرق بين الكاتب المبدع الخلاق الواثق المميز، وبين  من هو عكس ذلك.

 

 

ختاماً أختم قولي وكتابتي هذه بحمد الله وشكره أولا وأخيراً ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ، وأتقدم ببالغ الشكر والتقدير مع باقة ورد لصديقي العزيز الكاتب المبدع الدكتور محمد فتحي دامت كلماته بإفاضات خلاقة بما كتب ، وبما أتاح لي من الكتابة الجادة والتعقيب النقدي بهذه القراءة  التي أجدها مطولة حقاً ، على الرغم من أنني سعيت قدر الإمكان إلى الاختصار المركز ، ولكن هكذا أتت وخرجت ، رغم  ذلك ، لأن الموضوع في غاية الأهمية والضرورة ، كما أرى ، وكما سترون ذلك أصدقائي الأحبة الأعزاء .   
 

 

فاضل الكعبي 
 

كاتب مفكر وأديب ناقد وباحث متخصص بأدب ومسرح وثقافة الأطفال بتجربة أكثر من 45 عاما في الكتابة للأطفال وعن الأطفال . 
 

حامل جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال في الدراسات النقدية 2010 
 

درس ووضع أول معايير نقدية خاصة ومتخصصة بأدب الطفل العربي عبر كتابه الموسوم ( أدب الأطفال في المعايير النقدية

دراسة في الأسس والقواعد الفنية والنقدية لفن الكتابة للأطفال ) الصادر بطبعته الأولى في الشارقة ، الإمارات عام 2013 ، عضو محكم وخبير في العديد من المسابقات والجوائز العربية / أصدر بالإبداع في كتب الأطفال أكثر من 200 كتاب بين الشعر والقصة والحكاية الشعرية والمسرحية وقصص وروايات اليافعين ، إلى جانب اصداره ل 32 كتاب في الدراسات والأبحاث العلمية والنقدية المتخصصة التي تعد الآن من بين أبرز المراجع في هذا المجال في الوطن العربي . 


آمال ابو فارس المربية الاديبة والشاعرة, المسؤولة عن زاوية المنتدى الثقافي. يمكنكم الاتصال بها  Amlabo@walla.com او على هاتف 0549026108

 

תגובות

מומלצים