القِنديـــــــل
القِنديـــــــل
أتَذَكَّرُ القِنديلَ في بَيتي العَتيقِ مِنَ الطُفولةِ يومَ أنْ
فَتَّحتُ أولَ مَرَّةٍ عَيْنَيَّ، كانَ مُعَلَّقا كالمَزهَرِيَّةِ
فوقَ حائِطِ غُرفتي، لا وردةٌ فيهِ سوى لَهَبِ الفَتيلَةِ
خافتاً خلفَ الزُّجاجَةِ، يبعَثُ النورَ البَهِيَّ بما استطاعَ فَتيلُهُ
منِ شهوَةٍ للنّارِ تُشعلُهُ فيَملأ غُرفتي بالنورِ،
كُنتُ أراقِبُ النَّجَماتِ منْ شُبّاكِيَ المفتوحِ، تفرُشُ في
سَماءِ الكَونِ شرشَفَها المُذَهَّبَ، طرَّزَتهُ كواكِبُ الضوءِ البَعيدَةُ،
لا نُعَدُّ ولا تَنامُ إلى شُروقِ الشَّمسِ في أفُقِ الصَّباحِ،
كأنَّ بيدَرَ لؤلؤٍ مُتَلألئٍ فوقي يُسامِرُ وَحشَتي،
وسِراجِيَ القنديلُ يؤنِسُ وِحدَتي في ليْلِ أسئلتي الطَّويلِ،
وكَمْ يَطولُ الليلُ والصَّمتُ الثَقيلُ ونَحنُ نَبْحَثُ عَلَّنا نَجدُ الاجابَةَ
في السُّؤالِ على السُّؤالِ ورُبَّ أسئلةٍ تُخَبِّئُ تَحتَ إبطَيها الإجابَةَ
إن تَركناها تُحَلِّقُ حَولنا فتُثيرُ شَهوَتَنا لِنكتَشِفَ الحَقيقَةَ
خَلفَ بابِ الشَّكِ لا مِفتاحَ غيرهُ فامتَحِنْ بالشَّكِ ذاتَكَ فيكَ
هَذِّبها وَدَرِّبها على نَمَطِ التَّساؤلِ إنَّ سِرَّ الكونِ أسئِلَةٌ تُلاحِقُنا
كأنَّ حياتَنا حُلُمٌ نُحاوِلُ أنْ نُفَسِّرَهُ فَيهرُبُ في السَّرابِ إلى السَّرابِ
فلا تُحيطُ بهِ الاجابَةُ أو تُبَيِّنُهُ الرُّؤى وَيَظَلُّ قنديلي يُضيءُ
بما استطاعَ سَريرَتي فإذا غَفَوتُ يَظَلُّ يَرقُبُني السِّراجُ
على سَجِيَّتِهِ إلى أنْ تَنعَفَ الشَّمسُ البَهِيَّةُ شَعرَها الذَّهَبِيَّ
يَلمَعُ في السّماءِ فيُطفِئُ القِنْديلَ فائضُ نورِها
حتّى ولو ما زالَ فيهِ الضّوءُ مُنْبَعِثاً، يكادُ لِفَيْضِ حُزنِهِ لا يُرى
كانَ السِّراجُ كما نُسَمّيهِ هنا أبهى وأجمَلَ تُحْفَةٍ
في البَيتِ، يَبعَثُ ضوأهُ الساهي فيوحي بالسَّكينَةِ
والهُدوءِ المُخمَلِيِّ المُطْمَئِّنِ على سُهادِ الليلِ حَوْلي،
كانَتِ الريحُ الخَفيفَةُ تستَفِزُّهُ أو تداعِبُهُ بما مَلَكَتْ
يداها من أراجيحِ الهواءِ، تُراقِصُ اللَّهَبَ الحَزينَ
كما يَشاءُ لها الهوى،
فَتَظُنُّ أنَّ النورَ يَرقُصُ منْ وراءِ زُجاجةِ القِنديلِ
مُحْتَفِياً بأنثى الرّيحِ تتقِنُ رَقْصَةَ الباليهِ والتانجو
برومَنسيَّةٍ وَتَناغُمٍ يوحي بعِشقِ الريحِ للقِنديلِ والنّارِ
المُضيئَة حسبَ ايقاعِ الهواءِ يَلفُّ خاصِرَةَ اللهيبِ،
يُثيرُ شَهوَتَها فَتَعلو ثمَّ تَهبِطُ ثُمَّ تُسْلِمُ للهواءِ زِمامَها
فتَدورُ بَيْنَ يَدَيهِ عاشِقَةً تراوِحُ بينَ نارِ جُنونِ لَهْفَتها
وخشيَةِ ساعَةَ الصفرِ التيُ حتماً سَتُطْفئُها، فإنْ تَعِبَتْ
مِنَ الرَّقصِ الطّويلِ تَضُبُّ قَبضَتَها على الرّيحِ الخَفِيَّةِ
إذ تُجَرْجِرُ ذَيلَها لتَعودَ للشُّبّاكِ هادِئَةً تراقِبُ مِثْلَ
جاسوسٍ تَخَفَّى ما يَدورُ بغُرفتي،
فَلَرُبَّما عادَتْ إلى القِنديلِ ثانِيَةً تُحاوِلُ أنْ تُداعِبَ
شُعلَةَ النارِ الكَسولَةَ مَرَّةً أخرى فإنَّ الرّيحَ سِرٌّ لا
نُحيطُ بِكُنْهِهِ الأَزَليِّ، تَهْدَأُ أو تَهُبُّ وَمنْ يُحَرِّكُها، متى
أو كَيفَ هلْ أحَدٌ رآها؟
كَمْ كُنتُ أخشى الريحَ أنْ تَشتَدَّ فوقَ
تَحَمُّلِ النّارِ الضَّعيفَةِ في الذُّبالةِ،
إذْ تُحاوِلُ أنْ تُقاوِمَ هَبَّةَ الرّحِ القَوِيّةَ كيْ تواصِلَ ضوأَها،
عَبَثاً فيَخبو الضوءُ في القنديلِ،
تَهرعُ عندَها أمّي لِتُشعِلَهُ بعودٍ من ثِقابٍ لا يُفارِقُ
جَيْبَها الفضفاضِ، تُمَّ تَروحُ مُسرِعَةً إلى شُبَّاكِنا الخَشَبيِّ تُغْلِقُه،
وكنّا آنَذاكَ على بَساطَتِنا وطيبَتِنا البَريئَةِ
نتْرُكُ الشُّباكَ مَفتوحاً إلى فَصلِ الشِّتاءِ
ولم نكُنْ أبَداً لنُغلِقَ بابَنا الخَشَبِيَّ بالمِفتاحِ، كانَ البابُ
أزرَقَ مثلُ لونِ سَمائنا
اتَذَكَّرُ القنديلَ، كانَ رَفيقِيَ الليلِيَّ في سَهَري الطّويلِ
فكمْ منَ الكُتُبِ القَديمَةِ والرِّواياتِ الجَميلةِ قَدْ قَرأناها
على وهَجِ السّراجِ وكَمْ رسائلَ كانَ مخبئها كتابٌ لا يُفارقُنا
نُخَبِّئُها مخافةَ أنْ يَراها الوالدانِ
فَيَكْشِفا سرَّ الغرامِ على رسائِلِنا،
أحِنُّ إلى سِراجِيَ خافِتَ الضوءِ الحزينِ رَفيقَ
ليلِ طفولتي وونيسَ مشواري الشَّقِيِّ، طُفولَتي الأولى،
مُراهَقتي المُثيرَةِ في صبايَ ولَهفَتي وجنونِ عاصِفتي
إذا جُنَّ الهوى
وتَعودُني الذّكرى وللذكرى نَوافِذُ كي نُطِلَّ
على تفاصيلِ الحكايَةِ منْ بدايَتها التي ليستْ تموتُ
مع التقادُمِ أو مرورِ الوقتِ، نَفْتَحُها فيَتَّسِعُ المَدى
وَتُحَلِّقُ الرّوحُ الشَّريدَةُ في فضاءِ الزُّرقَةِ الأبَدِيِّ،
إنَّ دَليلَها سِربُ الفراشاتِ التي احتَرَقَتْ حَشاشَتُها
على قنديلِ جَذوَتِها التي لمْ تَنطَفئْ يوماً،
يكادُ الشَّوقُ يَقْتُلُها فَيُحْييها على رَمَقٍ، لتُكْمِلَ حُلْمَ
عَودَتِها البَعيدِ على حُدودِ المُستَحيلِ،
فَمَنْ سوى الضُّعَفاءِ والجُبَناءِ آمَنَ لَحْظَةً بالمُستَحيلِ،
فنام نومَ الكهفِ كيْ يَنسى فَيُنسى إنَّ للنِّسيانِ نِعْمَتهُ
فهلْ نَنْسى ضَياعَ حَياتِنا في غَفلةٍ منّا؟
كأنَّ الرّوحَ خَارِجَ جِسمِها البَشَريّ تائِهَةٌ، فكَيفَ لها الحياةَ بغَيرِهِ
يَوماً؟ وكَيفَ نَرُدُّها كيْ تَستَرِدَّهُ
مرةً أخرى فَتُحييهِ وَيُحييها، إذا اَستَعصتْ عَليها نِعمَةُ النِّسيانِ
واشتَدَّتْ عَليها الذِّكرَياتُ
تَعودُني الذّكرى فَيوجِعُني الحنينُ إليكِ،
أفرِدُ جانِحَيَّ على مِساحَةِ جِسمِكِ المنحوتِ طولاً
بَيْنَ ماءِ البَحرِ حتّى ضِفَّةِ النَّهرِ الذي ما زالَ يَذكُرُنا
وَيَذكُرُ دَمعَنا وَعَويلَ نِسوَتِنا على الجِسرِ العَتيقِ،
أما مَلَلتَ مِنِ انتِظارِكَ حُلْمَ عودَتِنا البعيدِ
كنَجمةٍ يَئِسَت فغادَرَتِ المَجَرَّةَ كُلَّها؟ يا جِسْرَ عَوْدَتِنا
وفاصِلَةَ الحِكايَةِ كلّها، بَيْنَ الحَياةِ هُناكَ والمَوْتِ البَطيء
كَسُلحُفاةٍ تُبطئُ الخَطَواتِ في صَحراءَ شاسِعَةِ السَّرابِ
والاغتِرابِ نتوهُ خلفَ سَرابِها وسَرابِ رؤيَتِنا
على تيهِ الرؤى
ما أبعَدَ الحُلُمَ الذي أَنِسَتْ بهِ أرواحُنا فاستَسْلَمتْ لِمَنامِها
لِتَظَلَّ تَحْلُمُ ثمَّ تحلُمُ أنّها حَلِمَتْ فَتَحْلُمُ،
آهِ يا حُلُماً نَطوفُ على جَناحَيهِ ونَفْتَقِدُ المِظَلَّةَ
كيْ نحُطَ ولو قَليلاً فيكَ يا وَطَني هُناكَ،
تَعودُني الذّكرى أحاوِلُ أنْ ألَمْلِمَ ما تَيَسَّر منْ
تَفاصيلِ الشّوارِدِ في جُنونِ هواجِسي ورؤايَ أبعَدَ مِنْ مَدايَ
فأستَرِدُّ، بكُلِّ ما أوتيتُ منْ وَلَهٍ بذاكِرَتي،
أنايَ مِنَ اغترابِ الرّوحِ عَنْ جَسَدي
وللذِّكرى نَوافِذُ قد تَرُدُّ الرّوحَ للجَسَدِ الكَسيرِ، أسيرِ رغبَتِها،
إرادَتِها وشَهوَتِها، فَتُحييهِ على عَجَلٍ
لِيَبدأَ منْ جَديدٍ رِحْلَةً بَيْنَ الحَياةِ وبَيْنَ بَينِ المَوتِ
في النّسيانِ واليأسِ الخَفيِّ، على طَريقِ الناصِرِي
إلى قِيامَتِهِ،
ونافِذَةٌ تُعيدُ الرّوحَ منْ هَذَيانِها العَبَثِيِّ في اللاوعْيِ
إنَّ الوَعْيَ مُفتَتَحُ البِدايةِ، إنْ وثَقتَ لجامَها وَهَبَتكَ
مِفتاحَ النّهايَةِ لامَحالةَ فامتَلِكْها، دَعْ لوَعْيِكَ فُرْصَةَ
التأويلِ واستِشرافِ مَجرى الرّيحِ، وجهَتها وكُنْ حَذِراً
فإنَّ الرّيحَ ماكِرَةُ الطّبائِعِ، كنْ أشَدَّ الماكرينَ لها،
وثِقْ بالوَعيِ، وَعْيِكَ أنتَ، لا وحيٌ سَيَهبِطُ من سمائكَ
أو سماءِ الحُلمِ، لا رؤيا تُبَشِّرُ بالقيامَةِ، لا مَعاجِزَ
لا خُرافَةَ، كُلُّها ذَهَبَتْ إلى مُستَوصَفِ الذّكرى،
وأنتَ الآنَ وحدكَ في الطَّريقِ إليْكَ أنتَ،
فأنتَ مُبتَدَأُ البِدايَةِ في الحِكايَةِ مُنذُ أوَّلِ خُطوَةٍ
في الرّيحِ، إذْ صَدَّقْتَ وَعْدَ العَوْدَةِ الوَهْمِيِّ
في مِذياعِنا العَرَبِيِّ، وَيْحَكَ كانَ ذاكَ مكيدَةَ الذّئبِ
البَريء وَجُبَّ يوسُفَ، أنتَ فيهِ الآنَ تَصْرُخُ تَستَغيثُ
فَمَنْ سَيلقي حَبْلَهُ في الجُبِّ كيْ تنجو، ولا تُجَّارَ تَعبُرُ
أرضَ كِنعانَ القَديمَةِ لا تَثِقْ إلّا بِنَبضِكَ،
لا تَدَعْ للرّيحِ مهما اشتَدَّ عَصفُ جُنونِها الهَمَجِيّ
أنْ تثني وَتَحْرِفَ خَطَّ بوصَلَةِ الطَّريقِ، لَرُبَّما
طالَ الطَّريقُ الصَّعبُ أكثَرَ، كُنْ على ثِقَةٍ وَلو أخطأتَ
أنَّكَ كُنتَ مُبتَدَأَ الحِكايَةِ مِنْ بِدايَتِها وأنَّكَ أنتَ،
لا أحَدٌ سواكَ سيَكْتُبُ الفَصلَ الأخيرَ بِحِبرِهِ الدَمَويِّ
ثُمَّ يُقِرُّ شَكلَ الخاتِمَــــــةْ
آمال ابو فارس المربية الاديبة والشاعرة, المسؤولة عن زاوية المنتدى الثقافي. يمكنكم الاتصال بها Amlabo@walla.com او على هاتف 0549026108