هل يوجد ما بعد قرارات المحكمة الجنائيّة الدوليّة!
لن أتطرّق إلى وقف إطلاق النار هذا الأسبوع بين حزب الله وإسرائيل بقيادة الرئيس الأمريكيّ جو بيدن، لأنّ هذا الموضوع ما زال في بدايته, بغضّ النظر عن توقيت قرارات المحكمة الجنائيّة الدوليّة لإصدار مذكّرات اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو ووزير أمنه السابق والمُقال يوآف غالانت.
الذي يمكن الجزم أنّه جاء إسرائيليًّا في صالح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، خاصّة وأنّه صرف الأنظار عن الغضب الجماهيريّ الذي خلّفته إقالة غالانت وفضائح تسريب الملفّات السرّيّة التي يتطوّر التحقيق فيها يوميًّا، والتي تتكشّف كلّ ساعة فيها معلومات تثير القلق والخوف خاصّة بعد الشريط المصوّر الذي أطلقه رئيس الوزراء نتنياهو مدافعًا شرسًا عن المعتقل إيلي فلدشتاين المتّهم بالمسّ بأمن الدولة،
وباقي موظّفي مكتبه ممّن سمحت المحاكم بنشر تفاصيلهم الشخصيّة أو حالت حتّى اليوم دون ذلك، والذي أكّد أنّ نتنياهو كان على معرفة جيّدة، بل لصيقة ووثيقة بالمعتقلين ومن تمّ التحقيق معهم، بل ربّما بارك أعمالهم غير القانونيّة، وعزّزته المعلومات حول مواصلة نتنياهو عرقلة صفقة لتبادل الرهائن في غزّة، ومواصلة القتال فيها خاصّة في جباليا التي أوقعت المعارك فيها عشرات القتلى في صفوف الجيش الإسرائيليّ،
وغيرها من قضايا اقتصاديّة وتشريعات تتعمّد تقليص حرّيّات الصحافة ومعاقبة من لا يضرب بسيف السلطان منها، أو يردّد شعاراته دون تفكير، وغيرها، ناهيك عن أنّها أكّدت صحّة دعمه ودعم اليمين للرئيس الأميركيّ الجديد دونالد ترامب الذي لم يكتف كالرئيس الحاليّ جو بايدن باعتبار القرار سابقة خطيرة تساوي بين إسرائيل التي تدافع عن نفسها وبين منظّمة إرهابيّة قتلت واختطفت واغتصبت،
بل أعلن عبر مؤيّديه ومنهم ليندسي غراهام، أنّ بلاده ستعاقب كلّ من يؤيّد قرارات المحكمة الجنائيّة الدوليّة وينفّذها، فإنّ العاصفة الآنيّة والإعلاميّة والسياسيّة التي أثارتها ردود الفعل العالميّة والأوروبّيّة والإسرائيليّة، أخفت بستار من الضباب الكثيف المعاني الحقيقيّة وبعيدة المدى لهذه الردود، والتي ستلقي بظلالها على أوروبّا والعالم وإسرائيل والشرق الأوسط، وستطال كافّة الأصعدة والمواضيع والقضايا،
بل أنّها أبعد من ذلك بكثير، فهي إذا ما ثبتت صحّتها وجديّة مطلقيها، تعني نظامًا عالميًّا جديدًا أو ترتيبًا عالميًّا ينذر ببداية أو تجذير عهد جديد، لم تعد فيه التصريحات الرنّانة والفضفاضة واللقاءات الدبلوماسيّة والمصافحات والاجتماعات خاصّة أمام عدسات الكاميرات، كافية لإخفاء التوتّرات والتغيّرات السياسيّة في العالم والتي تجد انعكاسها في تراجع أنظمة ليبراليّة عن توفير الحريّات الشخصيّة والجماعيّة من جهة، وتراجعًا أخطر يعني تنازل عدد من الدول وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة برئاسة دونالد ترامب عن فكرة "التضامن الدوليّ" بمعناه البسيط والأوّليّ الذي ينصّ على احترام القانون الدوليّ،
واحترام قرارات المؤسّسات الدوليّة وأبسط القواعد القضائيّة الدوليّة، بمعنى التنازل طوعًا عن فكرة النضال من أجل القيم الإنسانيّة في مواجهة الأنظمة المستبدّة أو زعماء أساؤوا استخدام القوّة العسكريّة، والكفّ عن محاولات تعزيز حقوق الإنسان وكون حياته القيمة العليا خاصّة إذا كان مدنيًّا أعزل لا حول له ولا قوّة يواجه آلة عسكريّة كبيرة وجامحة، وتناسي أو تجاهل فكرة التحرّر من الظلم السياسيّ ، وصولًا إلى حالة جديدة ملخّصها رفض القوانين والتشريعات، ومعاقبة من يجرؤ على تنفيذها، ويطالب بمعاقبة من أخطأ، وهو في هذه الحالة قيادات إسرائيل وحركة "حماس" على حدّ سواء كما جاء في قرار المحكمة.
هذه الردود وقبل الخوض في تفاصيلها الدقيقة تثير أسئلة كثيرة أوّلها ما إذا بإمكان الولايات المتّحدة أن تحافظ على علاقاتها الخاصّة والمميّزة مع دول الاتّحاد الأوروبّيّ، وهي علاقة كانت إدارة الرئيس بايدن قد استثمرت فيها الوقت والمال والجهد والسلاح، وأدّت إلى مواقفها المتشدّدة التي ربّما ساهمت في أطلاق شرارة الحرب الأوكرانيّة، وذلك عبر اتّفاق على ضرورة منع روسيا من التوسّع رغم الخلافات حول الجدوى من ضمّ دول جديدة إلى الاتّحاد الأوروبّيّ، بينما يعارض أعضاء منه ذلك، فقط استجابة لمطالب أميركيّة،
حيث يشير محلّلون سياسيّون إلى أنّ الردود المتناقضة والمتضاربة أميركيًّا وأوروبّيًّا حول قرارات المحكمة وإعلان كبار إدارة ترامب القادمة أنّهم سيعاقبون كلّ دولة تؤيّد قرارات المحكمة، تؤكّد ورغم مظاهر الودّ الخارجيّة التي ما زالت تميّز ظاهريًّا العلاقة بين أوروبّا وإدارة ترامب القادمة، أو ما يسمّونه بالانجليزيّة "بوليتكلي كوريركت politically correct"، تعكس حالة جديدة قوامها عدم اليقين حول المشهد السياسيّ الحاليّ، وتشير إلى عهد جديد من التوتّرات التي ربّما تلمّح إلى تحوّلات أعمق في توازنات القوى داخل الاتّحاد الأوروبّيّ أو بالأصحّ هويّة الدول ذات التأثير المحتمل على الولايات المتّحدة برئاسة ترامب،
والتي تحظى بقبول إسرائيليّ باتّفاق تامّ بين توجّهاتها نحو السيطرة على الجهاز القضائيّ ومنع أيّ حريّة إعلاميّة وشخصيّة، وفرض القيود على الأقلّيّات وغيرها، وهي المجر أو هنغاريا برئاسة فيكتور أوربان والتي كانت مع الولايات المتّحدة والأرجنتين الوحيدة التي رفضت علنًا قرار المحكمة الدوليّة، ولم تكتف بذلك بل دعت نتنياهو إلى زيارتها ضاربة عرض الحائط بقرارات الجهاز القضائيّ الأوروبّيّ والعالميّ معلنةً على رؤوس الأشهاد أنّ علاقاتها الدبلوماسيّة مع إسرائيل وأميركا ترامب أهمّ من أيّ قضيّة أخرى،
وأنّ مصالحها الخاصّة أهمّ بكثير من مصلحة العالم، وأنّ تحالفها مع إسرائيل أهمّ من حقوق الإنسان، وهو ما يمكن وصفه بأنّ قرار المحكمة ينذر بانقسام بين حلفاء إسرائيل الأوروبّيّين الذين قبلوا القرار وأعلنوا انصياعهم له واستعدادهم لاعتقال نتنياهو وغالانت إذا ما وطئت قدما أيّ منهما أراضي دولهم، وبين الولايات المتّحدة التي لم تكتف بالرفض والشجب وإعلان عدم الانصياع للقرار، بل أنّ القياديّ الجمهوريّ فيها ليندسي غراهام أكّد تحذيره الرسميّ، عبر رسائل ينوي إرسالها فور استلام ترامب مقاليد السلطة، تحذير قادة الدول الأوروبّيّة من اتّباع توجيهات الاتّحاد الأوروبّيّ وتنفيذ أوامر المحكمة الجنائيّة الدوليّة باعتقال نتنياهو وغالانت،
قائلًا إنّ هذا خارج نطاق الصلاحيّة القضائيّة لهذه الدول كلّ على حدة، أو حتّى للاتّحاد الأوروبّيّ كجسم أوروبّيّ جامع، وقال جوزيف بوريل ممثّل السياسة الخارجية فيه إنّ مذكّرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائيّة الدوليّة بحقّ نتنياهو وغالانت ليست سياسيّة ويجب احترام قرار المحكمة وتنفيذه، ليشير غراهام إلى أنّ "كلّ شخص يساعد ويحرّض على هذا الجهد المتهوّر سيكون في الجانب الخطأ من الولايات المتّحدة، وهي ليست عضوًا في المحكمة"، بل تعدّت ذلك إلى التهديد بعقاب كافّة الدول التي ستمتثل لهذا القرار، وهي بعدم انصياعها له ورفضها إيّاه إنّما تنضمّ إلى دولة أخرى، هي روسيا التي تجاهلت قرار المحكمة ذاتها اعتقال الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين.
هذه التطوّرات والتي ما زالت على نار هادئة حتّى اليوم تؤكّد ما كنت قد أشرت إليه سابقًا من أنّ العالم وبتأثير واضح من النزعة أو النظريّة أو الممارسة الترامبيّة، التي تعتبر المصلحة الضيّقة العامل الأهمّ والمعيار الأساسيّ لأيّ قرار يتّخذه الرئيس، تنذر وعلى ضوء ضعف روسيا بسبب الحرب الأوكرانيّة التي يريد ترامب وقفها، في تناقض مع مواقفه التي تريد أميركا دولة عظمى وحيدة تعود لتحكم العالم وحدها كقوّة عظمى سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا وفق حركة MAGA،التي تنادي بإعادة أميركا إلى عظمتها، يتوجّه نحو تراجع خطير في القيم الليبراليّة والديمقراطيّة، وأنّ عددًا كبيرًا من الدول ومنها الولايات المتّحدة وهنغاريا والأرجنتين وقبلها البرازيل في عهد بولسينارو،
وكذلك إسرائيل اليوم تتّجه نحو سياسة الزعيم الواحد الذي يتمّ انتخابه عبر انتخابات ديمقراطيّة من حيث الممارسة الشكليّة والصوريّة، لكنّها دكتاتوريّة التطبيق وفرديّة المنطلقات بعيدة عن الأيديولوجيّات، تتبع الإقصاء وسيلة، وتعمل على تطويع الجهاز القضائيّ والسيطرة التامّة على كافّة المواقع ورفض الشفافيّة، والتهديد بمعاقبة كلّ من يعارض،
وهذا ما فعله ترامب بتهديداته للأقلّيّات في أميركا والديمقراطيّين والمثليّين في الجيش الأميركيّ مهدّدًا بطردهم من الخدمة، رغم أنّ خدمتهم العسكريّة تتمّ وفق القوانين التي شرّعتها محاكم أميركيّة منها المحكمة العليا التي كان ترامب نفسه قد اختار رئيستها في ولايته السابقة لتبقى في منصبها مدى الحياة، لكنّ سمات العهد الجديد ترفض الانصياع لترتيبات سلطويّة وقضائيّة أيًّا كانت، وبالتالي تعتبر سلطتها وسطوتها كافية بجعلها تملي رغباتها على الدول الأخرى نحو عالم تسود فيه سلطة القوّة وليس قوّة السلطة،
ويكون الجميع من دول وقيادات خاضعين لقوانين دوليّة تضمن السلام والحرّيّة والحياة لا يجوز لأيّ منها تجاوزها، عالم يكون فيه للقويّ الإمكانيّة لارتكاب ما يريد من مخالفات أو خطوات يعتبرها القانون الدوليّ مخالفات لحقوق الإنسان وقوانين النزاعات والحروبات، دون أيّ رادع أو وازع، ويتمكّن الحكّام وأصحاب القرار من تنفيذ كافّة أجنداتهم تحت ستار القانون الذي يقومون بتفصيله على مقاساتهم، وترامب خير مثال على ذلك عبر تصريحاته الرسميّة قبل وصوله للحكم عام 2016،حين تعهّد بطرد 11 مليون مهاجر غير شرعيّ، وهو ما كرّره هذه المرّة، وتصريحاته بأنّه سيلجم الحريّة الأكاديميّة وحرّيّات التعبير، وسيعاقب ماليًّا كلّ مؤسّسة لا تنسجم ومواقفه، تمامًا كما سيعاقب كلّ دولة لا تنفّذ أجنداته، حتّى لو كانت هذه الأجندات مخالفة للقوانين والتشريعات الدوليّة.
صحيح أنّ قضية محكمة الجنايات الدوليّة، جديدة من حيث جدولها الزمنيّ، خاصّة وأنّ طلب المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة كريم خان إصدار مذكّرات توقيف بحقّ قادة من حركة "حماس" ورئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت (أقاله نتنياهو مؤخّرًا) على خلفيّة هجمات السابع من أكتوبر، تشرين الأول 2023 والحرب على غزّة بعدها، لكنّها تضاف إلى أمور أخرى، منها كذلك محكمة العدل الدوليّة وفي نفس السياق، والحرب في أوكرانيا، ومواقف الدول الأوروبّيّة من الحرب في غزّة،
وكذلك الحرب على جبهة إسرائيل الشماليّة، والتي انتهت أو توقّفت صبيحة أوّل أمس السابع والعشرين من تشرين الثاني 2024 باتّفاق هدنة لمدّة ستّين يومًا، تضمن الولايات المتّحدة فيه لإسرائيل، وهي عضو في الأمم المتّحدة، حريّة استخدام سلاحها ضدّ أراضي دولة أخرى هي أيضًا عضو في الأمم المتّحدة، وهي حرب تمّ فيها قصف العاصمة بيروت وللمرّة الثانية،
وسط صمت أميركيّ هو تأكيد ضمنيّ ونصف علنيّ، قصف عاصمة دولة عضو في الأمم المتّحدة ومحكمة الجنايات الدوليّة والمؤسّسات الأمميّة الأخرى، وهي أمور تشكّل مجتمعة الدليل على أمرين، حلوهما مرّ، أوّلهما أنّ العالم لم يعد عالم القطب الواحد أو الدولة العظمى الواحدة التي تعمل مع مؤسّسات دوليّة وقارّيّة أخرى، على ضمان الأمن والسلام والاستقرار، بل أنّه أصبح عالمًا تحكمه دولة عظمى واحدة، تعمل بشكل متواصل ومدروس على سحق كافة المؤسّسات الدوليّة ومنعها من ممارسة مهامّها، إضافة إلى رفض قراراتها وإعلان العصيان ضدّها، وليس ذلك فقط بل تهديد كلّ من ينصاع إليها، ما يخلق منطقًا وحالة بدأت معالمه منذ ثلاثة عقود ونيّف،
بتطويع منظمة الأمم المتّحدة بجمعيّتها العامّة ومجلس أمنها، لرغبة أميركيّة في الدرجة الأولى وبمساعدة بريطانيّة، في ضرب العراق واحتلاله بزعم امتلاكه أسلحة كيماويّة وبيولوجيّة، وهو زعم كاذب بمعرفة المبادرين إليه حينه وباعترافهم لاحقًا وفي مقدّمتهم رئيس وزراء بريطانيا في حينه، ورئيس الرباعيّة الدوليّة لاحقًا طوني بلير، عبر قرارات بالإجماع في مجلس الأمن وتجنيد عشرات الدول لشنّ حرب ضدّ دولة مستقلّة بذرائع لم تكن قائمة، لكنّ أميركا وحليفاتها خاصّة الدول الأوروبّيّة حينها والتي كانت آنذاك صاحبة تأثير كبير في عالم كان في ثنائيّ القطب، وهو تطويع تواصل في حرب الخليج الثانية،
وغزو أفغانستان بعد الحادي عشر من سبتمبرعام 2001، وصولًا إلى ما نحن فيه من سيطرة أميركيّة على المؤسّسات الدوليّة، أو الأصحّ خنق لها عبر تقليص ميزانياتها وربّما حتّى المطالبة بنقل مقرّ الأمم المتّحدة من نيويورك، وهي محاولات سيطرة عزّزها انهيار الاتّحاد السوفييتيّ وتفكّكه من جهة، ومن ثمّ لاحقًا بوادر الضعف التي أخذت تظهر على الاتّحاد أوروبّيّ خاصّة مع فشل التوقّعات المبنيّة على الوحدة الأوروبّيّة والبوادر الانفصاليّة متمثّلة بالبريكست البريطانيّ جغرافيًّا، وتلك السياسيّة والمتمثّلة بصعود قوى يمينيّة متطرّفة تحمل أفكارًا عنصريّة وإقصائيّة تحكم دولًا منها هنغاريا،
وكذلك مستشار النمسا الشابّ سباستيان كورتس، وتحاول السيطرة على أخرى عبر أحزاب اليمين في فرنسا وهولندا وألمانيا وغيرها، وكلّها أحزاب تنادي بأن تنصبّ الجهود على الشؤون الداخليّة دون لعب دور مركزيّ في الخارج، ما خلق الحالة الحاليّة التي نال الضعف من الدول الأوروبّيّة وصارت قدرة الكتلة الأوروبّيّة على الإقناع تتضاءل في عالم لم يعد فعلًا متعدّد الأقطاب، وهي قدرة تضاءلت أيضًا في القضايا الشرق أوسطيّة، عبر تراجع الدور الأوروبّيّ في مساعي حلّ النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ،
وخفوت الدور الروسيّ، إضافة إلى خفوت صوت الدول الأوروبّيّة في الدفاع عن حقوق الإنسان إلّا إذا كانت تخصّها كالحرب الأهليّة في يوغسلافيا مثلًا، وربّما كانت سخرية الأقدار وللتأكيد على تراجع الدور الأوروبّيّ هي الحقيقة أنّ جنوب أفريقيا، دولة الأبارتهايد سابقًا، هي تلك التي رفعت القضيّة أمام محكمة العدل الدوليّة بما يخصّ الحرب في غزّة واتّهمت إسرائيل بمحاولة الإبادة، ولعلّ الأهمّ أنّ هذا الحال يثير أسئلة حقيقيّة حول ما إذا كانت الولايات المتّحدة والدول الأوروبّيّة قد تخلّت عمدًا ومع سبق الإصرار عن تلك المؤسّسات الدوليّة التي أنشأتها الدول الغربيّة، وبالتالي إذا ما كانت المؤسّسات التي وضعت البنية التحتيّة لحقوق الإنسان مؤسّسات أقيمت لأهداف حقيقيّة وصحيحة، أم أنّها كانت مسرحيّة واحدة لخدمة نظام طبقيّ دوليّ معيّن، بمعنى أنّها كانت وسيلة لتحقيق غاية، وبالتالي انتهت الحاجة إليها بتحقق تلك الغاية، وهو السؤال أيضًا بالنسبة لجامعة الدول العربيّة وهي مؤسّسة جامعة، أسّستها الدول الأوروبّيّة، كانت طيلة عقود مسرحًا لقرارات شعبويّة وتصريحيّة لا تأثير لها، بمعنى أنّها قائمة شكليًّا غائبة، بل ميّتة فعليًّا.
إسرائيليًّا لا يختلف الأمر، فأوامر الاعتقال كانت الفرج لنتنياهو، فأعادته إلى مركز العناوين وجعلته موضع إجماع من مختلف أطياف الحلبة السياسيّة، باعتبار هذه الأوامر حوّلته في عرف الإسرائيليّين الى ضحيّة للمحكمة وللدول المعادية لإسرائيل فيها، ومنحته في منطق الإسرائيليّين بعد السابع من أكتوبر صفة القدّيس المُلاحق، أو القائد الذي يواجه العالم بأكمله ويفعل اللازم لحكايته، والدفاع عن بلاده بكافّة الخطوات المناسبة والتي يراها ملائمة دون اكتراث بما يقوله الأغيار،
ومنحته صورة القائد الذي يصمد أمام الضغوطات الدوليّة، بل يخاطر بأن يتمّ اعتقاله أو منعه من زيارة دول أوروبّيّة وغيرها، فهو يضحّي من أجل شعبه، وهي هالة كان نتنياهو بأمسّ الحاجة إليها، على ضوء ما يلفّ مكتبه من قضايا واتّهامه بأنّه أمكنه منع أوامر الاعتقال لو وافق على تشكيل لجنة تحقيق رسميّة، ناهيك عن أنّ ردود فعل المعارضة على هذا القرار كانت كعادتها خجولة خائفة تحاول عدم إغضاب المنتخبين، خاصّة تصريح زعيم المعارضة يائير لابيد أنّ إسرائيل تدافع عن نفسها ضدّ المنظّمات الإرهابيّة التي هاجمت وقتلت واغتصبت مواطنيها،
وأنّ مذكّرات الاعتقال هذه هي مكافأة للإرهاب، وتصريح رئيس حزب المعسكر الرسميّ، بيني غانتس، بأنّ قرار المحكمة الجنائيّة الدوليّة هو عمى أخلاقيّ ووصمة عار تاريخيّة لن تُنسى أبدًا، وكلّها تصريحات بل مجريات تصبّ مجتمعة في مصلحة نتنياهو وتجعله لأوّل مرة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، سلطة واحدة ووحيدة، أو سلطة رجل واحد في إسرائيل، يقرّر ما شاء ومتى شاء، واتّفاق وقف إطلاق النار في لبنان هو الدليل، فهو قرار حدّد معالمه وتوقيته ومضمونه نتنياهو وحده دون غيره ودون اكتراث لغيره، فهو على رأس سلطة الرجل الواحد واتّخذ قرارًا يشكّل هديّة واستجابة الحاكم الأوحد للولايات المتّحدة الرئيس القادم دونالد ترامب، وبالتالي يجد نتنياهو اليوم نفسه في حالة يمكنه فيها مواصلة الحرب في غزّة دون قيود ودون أيّ اهتمام دوليّ وبدعم أميركيّ يزداد ويتعاظم،
وعزوف عربيّ وأوروبّيّ عن إبداء الرأي، فالقول الفصل للولايات المتّحدة ورئيسها القادم الذي لا يريد أحد إثارة غضبه، وهو ما يريده اليمين في إسرائيل وما يضمن بقاء الائتلاف الحاليّ حتّى نهاية الفترة الدستوريّة للحكومة عام 2026، ومن جهة أخرى يمكنه من العودة وبقوّة إلى الانقلاب الدستوريّ عبر سلسلة تشريعات تقزّم الجهاز القضائيّ والمستشارين القضائيّين في الوزارات وتجعلهم يدينون بالولاء للوزير الذي عيّنهم، باعتبارهم تعيينات سياسيّة وليست وفق كفاءات مهنيّة، والسيطرة على الجهاز القضائيّ عبر استنزاف المحكمة العليا والتحريض عليها، وعدم عقد جلسات للجنة تعيين القضاة لاختيار رئيس للمحكمة العليا،
بقرار مقصود من وزير القضاء ياريف ليفين، وتهديدات بإقالة المستشارة القضائيّة للحكومة غالي بهراف ميارا، لعدم تساوقها مع مواقف وتوجّهات الحكومة ورئيسها وأحزابها الاستيطانيّة واليمينيّة المتديّنة والمتزمّتة، وتحريض على قادة الجيش والمخابرات وتهديدات بإقالتهم، واستبدالهم بموالين للسلطان يأكلون من خيره ويضربون بسوطه، وكيل التهم للمحقّقين على ضوء التحقيقات في فضائح تسريب وتزوير الوثائق المتعلّقة بالحرب في مكتب رئيس الوزراء، بأنّهم شركاء في ملاحقته ومحاولة الانقلاب عليه، والاتّهامات الموجّهة للمتظاهرين المطالبين بصفقة لإطلاق سراح الرهائن، بأنّهم يمسّون بالمجهود الحربيّ الإسرائيليّ ويزيدون من عناد وتعنّت "حماس"،
ويشكّلون ورقة ضغط على الحكومة، بل يسهّلون عمليّة اتّهامها بأنّها ترتكب أعمالًا غير قانونيّة في غزّة، رغم أنّ الجيش الإسرائيليّ وفق تصريحاته الرسميّة، يتصرّف وفق نظريّة خبير علوم الحرب البريطانيّ مارتن شو، حول استغلال تفوّقه التكنولوجيّ ما يمكنه من مواجهة المسلّحين من الحركات المسلّحة الذين ينشطون داخل المناطق المأهولة وبين السكّان المدنيّين، عبر قصفهم من بعيد دون تشكيل خطر على جنوده،
أو دون تواجدهم بشكل عمليّ وفعليّ على الأرض وفي الميدان وداخل المدن الفلسطينيّة في القطاع، وبالإنجليزيّة No Boots On The Ground، رغم أنّ وسيلة القتال هذه ربّما تزيد المخاطر على السكّان المدنيّين، وهي وسيلة قتال استطاعت إسرائيل في حربها في غزّة أن تجعلها مقبولة على معظم دول العالم، أي الحصول على شبه إجماع أو شرعيّة أميركيّة أوّلًا ودوليّة بعدها لنشاطاتها العسكريّة كما يصفها نتنياهو.
ولعلّ التاريخ يصرّ على قول كلمته إنْ شئنا أم أبينا، فتحوّل حكومة نتنياهو إلى سلطة وحيدة لا يهدّدها أيّ خطر انتخابيّ أو سياسيّ داخليّ ولا تكترث لأيّ ضغط عالميّ أو دوليّ أو لأيّ ميثاق حقوقيّ، هو ما سمح لوزير ماليّتها بتسلئيل سموتريتش اقتراح خطّته لتقليل عدد المواطنين الفلسطينيّين في الضّفة الغربيّة إلى النصف والعمل على "إقناعهم" بالرحيل والهجرة، وبكلمات أخرى قبول الترحيل فلسطينيًّا، وشرعنته إسرائيليًّا وأميركيًّا، وذلك تزامنًا مع مرور 75 عامًا على قرار الأمم المتّحدة رقم 181، والمعروف باسم قرار التقسيم من السابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947،
الذي أراد ضمان كيان للفلسطينيّين وتمّ ورفضه من قبلهم، وها هم اليوم وبعد 75 عامًا أمام حالة تنذر باختفاء كيان الحدّ الأدنى في عرفهم، وهو كيان فلسطينيّ (عربيّ) على جزء من فلسطين، وانتهائه دون رجعة، وكلّ ذلك في ظلّ إدارة أميركيّة جديدة ترفع صوتها في وجه كلّ هيئة أو دولة أو شخص تسوّل له نفسه انتقاد إسرائيل أو محاسبتها، بل مجرّد التلميح إلى ذلك، وضعف أوروبّيّ واختفاء عربيّ وإسلاميّ نهائيّ اللهمّ إلّا التصريحات،
وحكومة إسرائيليّة تريد استغلال الظرف الحاليّ والدعم الأميركيّ لتنفيذ أجنداتها الاستيطانيّة من جهة، والهادفة إلى إلغاء أيّ إمكانيّة لكيان فلسطينيّ من جهة ثانية، وللسيطرة على مؤسّسات الدولة وتطويعها لخدمة أجنداتها وسياساتها وضمان سلطتها عبر السيطرة على الجهاز القضائيّ، وجعل السلطة القضائيّة أداة ووسيلة لتحقيق غايات السلطة التنفيذيّة والتي تسيطر على السلطة التشريعيّة أيضًا، والتصرّف تمامًا كسلطات الدول الاستبداديّة بدءًا بالسيطرة على المعلومات، وقمع حرّيّة الصحافة وترهيب المتظاهرين المعارضين للسلطات وسياساتها،
عبر خصخصة وسائل الإعلام وملاحقة المسؤولين فيها، ومنع المحاكم من محاسبة أعضاء البرلمان والوزراء على مخالفات جنائيّة وأعمال فساد يرتكبونها، كما يريد البعض من اليمين اليوم، وجعل الوزراء والمسؤولين فوق المحاسبة والمساءلة والرقابة، بمعنى تخليد سلطة الحزب الواحد والرجل الواحد، كما يريد دونالد ترامب، وكما فعل فيكتور أوربان في هنغاريا، وخافيير ميلي في الأرجنتين، عبر تغيير نظام الحكم والسلطة كما صرّح وزير الاعلام الإسرائيليّ شلومو كارعي، المعروف بتنفيذ أجندات ورغبات نتنياهو وأفراد أسرته.
ختامًا، فإنّ نظرة متفحّصة وبعيدة المدى على الردود الدوليّة والإسرائيليّة على قرارات الاعتقال من المحكمة الجنائيّة الدوليّة تؤكّد ما قلته حول عالم أحاديّ القطب، تتحكّم فيه وليس تحكمه فقط، سلطة القوّة ودولة عظمى يرأسها شخص غير متوقّع، وحاكم أوحد لا يستشير ولا يستمع لأحد، قراراته سريعة وأحاديّة الأبعاد، وربّما لاعتبارات غير مفهومة،
لكنّه رئيس الدولة الأقوى عالميًّا التي حيَّدت المؤسّسات الدوليّة التي صنعتها هي بمعظمها، وحكومة في إسرائيل يشكّل استمرار الحرب الضمان لبقائها والاستيطان وقود حركاتها، تريد السيطرة على كلّ الأمور وإخضاع المؤسّسات كلّها لرئيس حكومة هو الحاكم الوحيد مع ائتلاف جامح تحرّكه مشاعر انتقام وعداء لكلّ مختلف، لا يتورّع عن شيء، والدليل تركيبته الحكوميّة والبرلمانيّة الغريبة والمتهوّرة، والتي تشير إلى طبيعة الشعب أكثر من أي شيء آخر، في إثبات قاطع لقول ونستون تشرشل الشهير: "إذا أردت أن تعرف أيّ شعب في العالم فانظر إلى برلمانه ومن يمثلّه فيه، وبعدها سوف تعرف أيّ الشعوب يستحقّ رمي الورود عليه أو عكس ذلك".