هل ستُفرز الانتخابات للبرلمان الأوروبيّ كارثة قادمة؟؟

وإن لم تحظ الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبيّ، التي جرت أوائل الشهر الحاليّ، في إسرائيل خاصّة والمنطقة عامّة، بالتغطية الكافية، قبل إجرائها أي في الفترة المتعارف على تسميتها "الحملات الانتخابيّة"، فهي حالة، وإن كانت غير محمودة باعتبار العالم قرية صغيرة

22.06.2024 מאת: المحامي زكي كمال
هل ستُفرز الانتخابات للبرلمان الأوروبيّ كارثة قادمة؟؟

 

وفوق كلّ ذلك بسبب الترابط الوثيق بين مآسي الشرق الأوسط ونتائج عدم الاستقرار الذي يعيشه خاصّة منذ العام 2021، أو الربيع العربيّ ومخلّفاته الكارثيّة، وفي مقدّمتها أفواج اللاجئين التي تدفّقت بالملايين على الدول الأوروبيّة، وكلّنا يذكر تلك الصور التي نقلت أخبارهم وصوَّرت أوضاعهم، والتي تراوحت بين ترحيب خجول بدافع الشفقة ومبرّرات اللجوء السياسيّ والرفض التامّ، وإغلاق الحدود بأسلاك شائكة في هنغاريا وغيرها، إلا أنه يمكن تفسيرها وأقصد تجاهل الانتخابات الأوروبيّة، بأن المنطقة عامّة وإسرائيل خاصّة تعيش منذ تسعة أشهر عاصفة من التوتّر انطلقت شرارتها في السابع من أكتوبر ولم تخمد نيرانها بعد، وبالتالي يكن التماس العذر للصحافة، رغم أنني أُؤمن بكلّ جوارحي أن وجود الواحد منا وسط عاصفة كبيرة وأحداث جسام، يجب أن لا يمنعه من إبقاء مجالات اهتمامه واسعة متحفزَّة ومنفتحة على العالم، ومتابعة أحداثه وتطوّراته وتحليلها وتفسير علاقتها الحاليّة بما يحدث هنا وربما أبعادها المستقبليّة،

 

فهي ربما أحداث تشكّل مقدّمة، أو إشارة إلى تطوّر خطير ستتّضح معالمه فور زوال أسباب ومسبّبات العاصفة التي نعيشها هنا، ليتضح ربما أنها أصغر وأقلّ اتّساعًا، بمعنى أنه يحظر علينا أن نترك لعاصفة محليّة، مهما كبرت، أن تجعلنا نتجاهل إشارات ومقدّمات تنذر بإعصار جديد وشديد، إلا أن استمرار  تجاهل هذه الانتخابات، وتحديدًا عدم الخوض الشجاع في نتائجها وتفسيراتها، وملخّصها انتصار واسع وكبير وجارف للمواقف اليمينيّة المتطرّفة، وهي نتيجة بل حقيقة واقعة كانت مكتوبة على الحائط منذ سنوات، وأصبحت اليوم واضحة مكتوبة بأحرف من نار، تنذر بأن تحرق الكثير، أو أن تشتعل لتصبح نارًا فتاكة قد يعجز الكثيرون عن إخمادها، مجازًا ربما وأحيانًا حرفيًّا.

 


التساؤلات حول تجاهل نتائج الانتخابات المذكورة، خاصّة، وأن دلائلها، بل إشاراتها كانت واضحة، حذّرتُ منها منذ سنوات في كتاباتي خاصّة على ضوء ما شهدته فرنسا والتي يبلغ عدد المسلمين فيها  نحو أربعة ملايين،  وتحديدًا عاصمتها باريس من اعتداءات مسلّحة على خلفيّة دينية منها مجلة "تشارلي ايبدو" ومسرح "الباتكلان" وغيرهما وإلحاق للضرر بالممتلكات العامّة  بشكل متكرّر، وأعمال أخرى جنائيّة كالعنف والمتاجرة بالمخدّرات وغيرها،  وكذلك حي مولنبيك في بروكسل  عاصمة دولة بلجيكا، التي يشكّل المسلمون فيها نحو 7% من السكان، والذي امتنعت الشرطة البلجيكيّة عن دخوله لفترات طويلة خوفًا وخشيةً، وشهد نشاطات منافية للقانون نفّذها بعض مواطنيها من أصول شرق أوسطيّة وآسيويّة وشمال أفريقيّة، وعلى خلفيّة تشدّدهم الدينيّ ورفضهم الاندماج في حياة الدول الأوروبيّة، وكذلك العمليّة الأخيرة التي شهدتها  ألمانيا، ويقيم فيها نحو خمسة ملايين ونصف المليون مسلم، وتحديدًا مدينة مانهايم، وأسفرت عن مقتل شرطيّ وجرح أربعة من نشطاء اليمين هناك، وما تبع ذلك من تشديد للسياسات المتعلّقة بالمهاجرين، بما في ذلك في ألمانيا التي استوعبت مليون مهاجر من الشرق الأوسط إبان عهد المستشارة أنجيلا ميركل، بدوافع إنسانيّة، والتي تغيرّت سياساتها بهذا الصدد ، حتى وصلت إلى حد دعوات واضحة وصريحة لإبعاد اللاجئين، أو وضع خطط لإعادتهم إلى بلادهم ومنها سوريا والعراق والباكستان وأفغانستان وغيرها،

 

حيث تمّت الموافقة على الميثاق الأوروبيّ الجديد بشأن الهجرة، الذي ينصّ على تسريع عمليّات إعادة المهاجرين الذين لا يستوفون شروط اللجوء السياسيّ، أو غيره أو الحماية الخاصّة، وذلك ردًّا على مظاهر التطرّف الدينيّ التي أبدوها، ورفضهم الاندماج في حياة الدول الأوروبيّة التي وصلوها، دون التنازل عن معتقداتهم وسلوكيّاتهم، ولكن بالمقابل دون محاولة فرضها على الآخرين عنوة حتى المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلاميّة في بعض هذه الدول وخاصّة بلجيكا وفرنسا، حتى جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة لتؤكّد حالة كنت أشرت إليها، بل حذّرت من أنها كارثة ستلحق بالأقليّات الشرق أوسطيّة عامّة والمسلمة خاصّة إذا لم تتغيّر توجّهات هؤلاء في الدول الأوروبيّة، وهي حالة واضحة في السياسة تحدث هنا أيضًا في منطقتنا، وتحديدًا بما يتعلق بالنزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، ملخّصها أن التطرّف يغذّي التطرّف الآخر، بمعنى أن التطرّف المنسوب لأفراد شرق أوسطييّن أو جماعات شرق أوسطيّة، أو التطرّف المنسوب لأفراد مسلمين، أو جماعات إسلاميّة،  سيؤدّي حتمًا كسبب رئيسيّ ووحيد في حالات معيّنة، أو كعامل مساعد ومحفّز ومُسَّرِّع في حالات معيّنة، إلى تعزيز أو تبرير، أو حتى ربما شرعنة  التطرّف اليمينيّ في أوروبا باعتباره الردّ على هذه التصرّف، وهو ما نراه اليوم من نتائج هذه الانتخابات التي يميّزها صعود اليمين المتطرّف الرافض للغرباء، بل المنادي بطرهم، وازدياد القبول للخطاب الشعبويّ، وزيادة تمثيل  الأحزاب التي ترفع شعاراته  في البرلمان الأوروبيّ،

 

وهي نتائج يفسّرها مؤيّدوها على أنها نتيجة واضحة ومباشرة لتصويت لأحزاب تعتبر  مصلحة الدول الأوروبيّة وقضاياها الداخليّة الأمر الأهمّ، وخاصّة ضرورة الحدّ من أعداد المهاجرين، وهم الذين  تشهد أعدادهم زيادة حادّة ، رغم انتهاء الحرب الأهليّة في سوريا تحديدًا،  والذين أدّى استمرار تدفّقهم إلى ازدياد البطالة ومظاهر العنف وارتفاع تكاليف المعيشة والاعتداءات، أو التضييقات على خلفيّة التطرّف الدينيّ، بينما يفسرها معارضوها ومنهم الكاتبة الفرنسيّة إيميلا رواغ،  بأنها عودة إلى المظاهر الفاشيّة ومظاهر الكراهية والإقصاء، حيث قالت :

 

"اعترفوا بأن الفاشيّة قد وصلت، لنتكلّم عنها علنيّة. إنكار ذلك لا يساعد، وإنما يجعل الأمر أسوأ".
  ورغم كون النتائج حديثة العهد إلا أن الركون الى ذلك هو دفن للرأس في الرمال، وتجاهل خطير للأسباب والدوافع، وركون خطير إلى أنها حالة مؤقّتة سببها أحزاب شعبويّة نجحت في استقطاب أصوات مجموعات معيّنة بفعل عوامل آنيّة وأحداث ما زال تأثيرها ماثلًا، أو نتيجة خطاب غرائزيّ يعتمد المشاعر والعزف على أوتار الخوف أو التخويف، إلا أن النتائج عامّة، ونتائجها من ازدياد تأييد الأحزاب اليمينيّة الفئويّة، وخاصّة ما اتّضح من نماذج تصويت للفئة الشابّة، ويثير القلق ويؤكّد أن الحديث لا يدور عن حالة مؤقّتة، أو نزوة انتخابيّة، خاصّة وأن 34% من الشباب الفرنسيّين، كانوا اكدوا تصويتهم للمرشح جوردان بارديلا، وعمره 28 سنة، وهو المرشّح لرئاسة الحكومة من قبل السياسيّة المتطرّفة اليمينيّة ، ماريان لا بين، زعيمة حزب الجبهة الوطنيّة الفرنسيّة، التي تطالب بأبعاد اللاجئين على اختلاف انتماءاتهم إضافة إلى عدائها للمسلمين والأفارقة، وهو الحال في دول أخرى أكّد تحليل  نتائج الانتخابات دعمًا قويًّا ومتزايدًا بين الشباب لأحزاب يمينيّة مماثلة فيها ومنها حزب "فوكس" في إسبانيا، و"تشيغا" في البرتغال، و"فلامس بلانغ" في بلجيكا وحزب "الفينز" في فنلندا، إضافة إلى بروز مواقف يمينيّة متطرّفة لدى العديد من الشباب الهولنديّين، خاصّة ممّن لم يتحمّلوا موجة الغلاء التي تشهدها بلادهم والبطالة والتضييق على الحرية والأمن الشخصيّ، ومحاولات تنفيذ اعتداءات مسلّحة بدوافع دينيّة إسلاميّة،

 

ولعلّ المثال الأوضح، وربما الأخطر هو ما حدث هناك من فوز للمرشح اليمينيّ خورت فيلدرز ،الذي حصل حزبه اليمينيّ المتطرف على أكثر من 30% من الأصوات في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، والذي خاض حملته الانتخابيّة تحت شعار واحد هو إبعاد الغرباء والمسلمين وطردهم، وألقى خطاب النصر في مقرّ حزبه، وخلفه علم دولة إسرائيل، علمًا أن تصويت الشباب الهولنديّ له جاء على خلفيّة غلاء المعيشة والبطالة جرّاء حيازة المهاجرين على أماكن عمل برواتب أقلّ، وخاصّة في العاصمة أمستردام ومحيطها،  وبالتالي منح الشباب أصواتهم لحزب الحريّة المناهض للإسلام والهجرة، وهو الحزب الذي تصدر الاستطلاعات بين الناخبين الشباب الهولنديّين، وهو الأمر الذي يستوجب من المسؤولين سواء في الدول الشرق أوسطيّة، أو تلك الإسلاميّة وكذلك من المسؤولين والقياديّين المحليّين في أوساط المهاجرين عامّة والمسلمين منهم خاصّة، وقفة صريحة وشجاعة مع الذات يتمّ فيها طرح الأسئلة الحقيقيّة والصريحة حول مدى استعداد الجاليات المسلمة، أو جزء منها هو الجيل الشاب خاصّة وللغرابة، للانخراط في حياة الدول الأوروبيّة المستضيفة. وهي دول تتبع منظومات سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة تختلف عن تلك القائمة في دول الشرق الأوسط تعتمد حريّة التعبير والمعتقدات والحريّات الشخصيّة وحريّة الإبداع وغيرها من الأسس التي تعتبر مفهومة ضمنًا في الدول الديمقراطيّة، وحقًّا مكفولًا للمواطنين فيها، بينما تبقى معدومة في دول الشرق الأوسط، ومعظم تلك الإسلاميّة، وبالتالي الانصياع لقوانين الدول المستضيفة وممارسة لعبة التأثير السياسيّ والاجتماعيّ بالوسائل القانونيّة والمشروعة والانتخابات ووسائل الإعلام بعيدًا عن العنف، وإن كانت تمارسه قلّة قليلة جدًّا، إلا أنه من الواضح أن الاعتداءات المسلّحة في المدن الأوروبيّة ساعدت على نشر الكراهية والخوف ، ممّا يعزّز موقف اليمين، ويزيد من معاداة الإسلام في السياسة والإعلام، ويعزّز التوتّر

 

وهو ما تشهده ألمانيا حاليًّا، بدلًا من مواصلة الحكومة تنفيد خطّة كانت وضعتها  لمكافحة الكراهية ضد الإسلام،  وهذا هو الأهم في حالة الشرق الأوسط، رغم أن النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات والتي تؤكد توجّهات يمينيّة واضحة، تؤكّد في نفس الوقت وجود خلافات بين الأحزاب اليمينيّة الأوروبيّة في قضايا عديدة تتعلّق بالمناخ وخاصّة بما يتعلّق بالحرب الأوكرانيّة، فبعضها يقيم علاقات  تأييد ودعم مع روسيا، بل يطمح إلى بناء نهج أوروبيّ جديد في التعاطي مع الأزمة الأوكرانيّة باعتبارها  زادت من حدّة الأزمات الاقتصاديّة في أوروبا، ودفعت بالبعض إلى المطالبة بوقف المساعدات الماليّة والعسكريّة والاقتصاديّة  المقدّمة لأوكرانيا من قِبل الدول الأوروبيّة، بل إن عددًا من  أحزاب اليمين المتطرّف دعت إلى وقف دعم الحرب،  فرئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان، كان الأكثر صراحةً في التعبير عن عدم رضاه عن الحرب، وعن العقوبات المفروضة على روسيا، بينما انتقد زعيم حزب الحريّة النمساويّ، هربرت كيكل الدعم المقدم لأوكرانيا والعقوبات المفروضة على موسكو، وبالمقابل تؤيّد زعيمة حزب "أخوة إيطاليا"، جورجيا ميلوني، العقوبات على روسيا، ناهيك عن أن هذه النتائج قد تعرقل خطوات أخرى منها محاولات توسيع نطاق الاتحاد الأوروبيّ وخاصّة ضمّ أوكرانيا خلال الدورة الحاليّة، وهي الدورة الثانية التي ترأسها أورسولا فود در لين، رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة، والتي ستتمكّن من تشكيل ائتلاف رغم خسارة بعض قوة حزب "الوحدة الأوروبيّة " الذي تقوده وحصل على 400 مقعدًا من أصل 720، وبالتالي سيكون ائتلافها هشًّا وضعيفًا، مع التأكيد على أن فوز أحزاب اليمين سيؤدّي إلى فرض مزيد من القيود على الهجرة، بما يتماشى مع سياسات هذه الأحزاب الرامية إلى الحدّ من الهجرة غير الشرعيّة، وطلبات اللجوء السياسيّ والإنسانيّ.
 

 

أسباب هذا التصويت سابق الذكر، إضافة إلى كونها ناقوس خطر على المهاجرين عامّة والمسلمين منهم خاصّة، فإنها تستوجب الوقوف عندها ومحاولة تفسيرها داخليًّا وأوروبيًّا، وتحديدًا السؤال كيف يمكن لمن تربّى في بيئة تحترم، بل ربما تقدّس التعدديّة والعلمانيّة، وتتحدّث عن اتحاد أوروبيّ وعملة واحدة، أن يقبل بأحزاب تدعو إلى التقوقع والإقصاء على خلفية عرقيّة ودينيّة، بل التصويت لها، وهو ما يعيدني إلى كتاب عالم النفس أريك فروم، "الهروب من الحريّة" الذي تمّ نشره  أوّل مرّة في الولايات المتحدة الأميركيّة عام 1941، بهذا العنوان، وما زال يحمله بينما صدر في بريطانيا بعنوان مختلف وهو "الخوف من الحريّة" ، إذ يؤكّد أن تقهقر الحضارة البشريّة  والضعف الذي يعتريها، ويثير الشعور أن مبادئ الليبراليّة الاقتصاديّة والديمقراطيّة السياسيّة والحريّة الدينيّة الشخصيّة  والنزعة الفرديّة خاصّة في  الحياة الشخصيّة،  وكلّها أمور يعتقد المواطنون أنها ستقرّبهم من الحريّة التامّة والأمن والأمان والاستقرار،  ليست كذلك فعلًا وذلك عقب ظهور وبروز أحزاب وتوجّهات وحركات  تتنكّر لكلّ ما يؤمن به المواطنون، أو يعتقدون بأنهم كسبوه خلال قرون ، وأن ما يؤمنون به وما فعلوه وما قدّموه من تنازلات وتساهلات وغيرها، لم يضمن لهم السلام، أو الأمن أو الأمان أو الحرية بمعناها الواسع؛ السياسيّ والاقتصاديّ والمذهبيّ والمعتقداتيّ الإيمانيّ،

 

أي أنها أمور لم تضمن للإنسان تحقيق ذاته الشخصيّ، ليكون الردّ تخلّي  المواطن الفرد عن الحقوق والحريّة الفرديّة، أو السعي إلى تحقيق الذات بمفردها ، والتعاطف أو التماثل التامّ مع الجماعة التي حوله، بمعنى أن يتنازل الإنسان عن "ذاته الشخصيّة"، ليعيش وسط الجماعة وفق ما يمليه عليه الخارج من أحاسيس ومواقف بما يشبه نظرية القطيع، وملخّصها أن الأمن الشخصيّ والفرديّ وتحقيق الذات لا يتمّ إلا عبر العودة إلى الجماعة، أو إلى المشابه والابتعاد عن كلّ ما هو مختلف، وهو تصرّف عادة ما يفعله الإنسان حينما يكون في أقصى حالات فقدان الأمان الحقيقيّ أو المتَهيَّأ،  فيبحث عن الجماعة وأحيانًا عن استحسان الآخرين له واعترافهم به، في محاولة للتغلّب على حالة عدم الأمان التي يعيشها، أو يشعر بها، وتصل أحيانًا حدّ الشعور بالعجز والخوف الوجوديّ، في حالة تشبه العودة إلى مواقف سياسية متشدّدة في إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، والتنازل عن مواقف ومعتقدات سياسيّة شخصيّة كانت قائمة قبل ذلك الحين، عبر تغيير مواقف، أو التنازل عنها مؤقّتًا مقابل أن يصير الإنسان جزءًا من كُلِّ أكبر وأقوى أو جماعة كبيرة تمنحه الشعور بالقوة والأمن،  ويمكن أن يكون هذا الكلّ، سلطة أو حزبًا، أو مؤسسة أو توجّهًا قوميًّا، أو غيره، وهذا ما توفّره الأحزاب الفاشيّة، أو أحزاب الشخص الواحد للمواطنين، وسط خطاب شعبويّ بسيط يعتمد إيقاظ  وتحفيز الغرائز وتعزيز الترهيب والتخويف.
 

 

والشيء بالشيء يذكر،  فالعزف على وتر الأمن الشخصيّ كجزء من الأمن العامّ، أو ضرورة التنازل عنه لمصلحة الأمن العالم هو ما نشهده في البلاد، من حيث مطالبة المواطنين بالامتناع عن أيّ نشاطات تطالب بوقف الحرب وإعادة الهدوء الى البلاد، وعودة الحياة الاقتصاديّة والصناعيّة والحريّات الشخصيّة إلى نصابها وطبيعتها، باعتبار التنازل شرط لتحقيق أهداف عامّة تبدو ضبابيّة وغير محدّدة المعالم منها "النصر المطلق والتامّ" دون الخوض في تفاصيله ومركّباته، بل جعله مجرّد شعار وعنوان فضفاض، إضافة إلى صحة  القول بأن التطرّف والتشدّد في طرف ما يقوّي ويعزّز التطرّف والتشدّد في الطرف الآخر، وهو ما أشرت الى وجوده في حالة النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ ، وتحديدًا مظاهر التطرّف الدينيّ والعقائديّ التي تزداد حدّة وشدة وخطورة في الطرفين، خاصّة في حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ " في الطرف الفلسطينيّ واعتبارهما من قبل مجموعات كبيرة فلسطينيّة بما فيها أجزاء كبيرة من الجيل الشاب، الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأهداف الجماعيّة، واعتبارها التعبير الموجود عن الأهداف الفرديّة، أو البديل لها، بعد أن فشلت الجهود الفرديّة لتحقيق الذات سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا ، أي الاستقلال السياسيّ والاقتصاديّ والحريّة الشخصيّة والتعليم وغيرها، ليكون الردّ "ردّةً" وانكفاءً تحت لواء حركات متشدّدة ، تتبع الخطاب الشعبويّ السياسيّ، أو الدينيّ الذي يعتمد التعميم دون الخوض في التفاصيل،

 

فيتحدّث عن الحريّة بمعناها  الجماعيّ السياسيّ والأيديولوجيّ، دون الخوض في تفاصيلها وأبعادها على الفرد، وعن الاستقلال دون تفاصيله وعن الكرامة القوميّة دون تلك الشخصيّة، والدليل الواضح هو نجاح المتطرّفين في الحركات الدينيّة السنيّة خاصّة، في تعزيز نفوذهم وسيطرتهم  خلال العقود الأخيرة وتحديدًا منذ حرب الخليج الأولى،  وذلك بسبب سوء الأداء الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وفوق ذلك التصرّفات القمعيّة للأنظمة السياسيّة العربيّة والمسلمة، والمعطيات واضحة منها  تأخّر الدول العربيّة والدول الإسلاميّة، بشكل كبير خلف باقي العالم من حيث توفير الحياة الكريمة والحريّة والاستقلال الاقتصاديّ للفرد، وقلّة وشحّ  الفرص الاجتماعيّة التي تصبّ في مصلحة الفرد، وليس السلطة أو الحركة الدينيّة، ناهيك عن أن الظروف الاجتماعيّة-الاقتصاديّة المتدهورة في العالم العربيّ والإسلاميّ تساهم في نمو التطرّف الدينيّ، ما يدفع بنسبةٍ أكبر من الشبّان باتّجاه التعصّب والسياسة المستوحاة من الدين. وهي حالة كانت ظاهرة الربيع العرب والتي منيت بالفشل الذريع أحد محفّزاتها، خلافًا للاعتقاد بأن الربيع العربيّ سيكون علمانيًّا وحرًّا وديمقراطيًّا، وهو ما كان عند توقيع اتفاقيّات أوسلو وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وما يحدث حاليًّا في الضفة الغربيّة، حيث ساد الاعتقاد أن قيام السلطة الفلسطينيّة كسلطة مدنيّة علمانيّة ،سيضمن الحريّة والاستقلال والرفاهية، ليكون الأمر معاكسًا وبالتالي ردةٌ نحو التطرّف الدينيّ والسياسيّ،

 

وهو الأمر نفسه من حيث ازدياد قوّة التوجّهات والحركات الدينيّة والاستيطانيّة المتزمّتة اليهوديّة، والتي تعتمد الخطاب التوراتيّ والخطاب الشعبويّ حول الكرامة القوميّة والأحقيّة الدينيّة بكامل أرض إسرائيل ليس فقط من النهر إلى البحر، بل تلك التوراتيّة التي تشمل منطقة الهلال الخصيب وحتى ما بين نهري النيل والفرات بكامل دوله وثرواته وشعوبه التي عليها الاختيار بين البقاء صاغرة وبعبوديّة، أو الهجرة والتهجير وربما القتل، تمامًا او على وزن القول إن فلسطين كلّها وقف إسلاميّ، وأن لا مكان فيها لغير المسلمين وخاصّة اليهود الذين عليهم القبول بالبقاء دون حقوق،  أو الهجرة والتهجير وربما القتل ، وكلّها أبعاد دينيّة تشكّل على ضوء الوضع الحاليّ سلسلة متكاملة من العوامل التي تُفشل كافّة  احتمالات التوصّل إلى سلام دائم بين الجهتين. فيرى اليهود المتديّنون المتطرّفون في إسرائيل أنفسهم على أنهم أوصياء الدولة اليهوديّة ومسؤولون عن تحديد شكلها، ويُبدون تزمّتًا كبيرًا حين يتعلّق الأمر بإبداء تنازلات للفلسطينيّين خاصّة والعرب عامّة حتى لو كان البديل المزيد من الحروب والدماء، فهذا هو وصية دينيّة وربما أوامر إلاهيّة، ومن جهةٍ أخرى، تواصل المجموعات الإسلاميّة في الضفة والقطاع، وفي أماكن أخرى من العالَم الإسلاميّ التمسّك بضرورة تحرير الأراضي والأماكن المقدَّسة الفلسطينيّة كلّها حتى آخر شبر، لأسبابٍ دينيّة، 
 

 

ما حدث في أوروبا  من تشدّد إسلاميّ، ورفض للاندماج هو نفس الظاهرة والتي عزّزها صمت الأقلام في العالم العربيّ، بل الخوف من قول الحقّ، فالحقيقة كانت مكتوبة على الحائط،  لكنّ الصمت من قبل المسؤولين وأصحاب الفكر النيِّر زادت من تطرّف وسلطة المتزمّتين، والنتيجة هي ما نحن عليه اليوم، والأمر سيّان في حالة التطرّف الدينيّ والسياسيّ في النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، فالجميع يدرك خطورته  لكنّهم صمتوا خوفًا، أو خشية، أو لأهداف سياسية ومآرب شخصيّة، والجميع يثق باستحالة تطبيقه بحذافيره وبكامل أهدافه ، ما ينذر بمزيد من الصدامات وسفك الدماء، لكنّها سلسلة صمّ للآذان وامتناع عن رؤية العنوان، وانسياق وراء شعارات شعبويّة تبدأ من نشر الخلافة الإسلاميّة في أوروبا، أو تحرير فلسطينيّ فهي كلّها وقف إسلاميّ، أو إقامة دولة إسرائيل التوراتيّة، وكلّها وقف يهوديّ وعد الله بها اليهود ، حتى تنفجر الأوضاع، فإمّا أن أحدًا لا يرفع راية التحذير،  أو أن الراية مرفوعة، ولا أحد يفهمها، كمن ينفخ في رماد، أو يصرخ في واد، عملًا  وبشكل مجازيّ بذلك القول الشهير للمغني الأمريكيّ فرانك زابا حول عمل الإعلام الذي يقول:" جزء كبير من الصحافة عبارة عن أناس لا يجيدون الكتابة يقابلون أناس لا يجيدون التحدّث لأناس لا يجيدون القراءة"،

 

فالتطرّف الدينيّ الإسلاميّ في أوروبا هو لقاء غريب بين مهاجرين لا يفهمون الحقوق الفرديّة والحريّة الشخصيّة، وبين مجتمعات تقدّس ما سبق، لكنّ المهاجرين يرفضون قراءة الواقع وفهمه، والنتيجة كارثيّة متمثّلة بنتائج انتخابات البرلمان الأوروبيّ التي تعني نقل أوروبا إلى حالة جديدة من الإقصاء الموجّه ضد العرب والمسلمين والتعميم الخطير في ذلك ، فالإسلام في نظر معظم الأوروبيّين موازٍ اليوم للإرهاب، وهكذا التطرّف الدينيّ المتعلّق بالنزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، فالعنوان واضح، لكن لا أحد يريد شرحه بصراحة، والأنكى من ذلك أن لا أحد يريد قراءته. والنتيجة السابع من أكتوبر بمعناه الواسع، فالفلسطينيّ في نظر الإسرائيليّ إرهابيّ، والإسرائيلي في نظر الفلسطينيّ محتلّ يمارس الحرب والقتل، وكلّها شعارات شعبويّة بسيطة الصياغة لكنّها خطيرة، بل كارثيّة النتائج، فهل بين أصحاب التأثير ومتّخذي القرارات في الحالات السابقة حكيم يفهم وذكيّ يعتبر وشجاع ينطق بالحقّ؟ ونعود إلى كتاب "سحر القيادة لإبراهيم الفقي الذي يقول "التقدّم مستحيل بدون التغيير، وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير عقولهم لا يستطيعون تغيير أي شيء" . وكما قال الإمام الشافعي: "نُعيب زماننا والعيبُ فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا ".

 

תגובות

מומלצים