عِبر الماضي والتاريخ خارطة الطريق للمستقبل
إنّ الحنين إلى الماضي والغوص فيه، والبكاء على الأطلال، والبحث عن إعادة مجد تليد وتحويل ماضٍ قديم إلى واقع جديد، من الميزات الخاصّة لشرقنا الأوسط بشقّه العربي عامّة، والإسلاميّ خاصّة. وواحدًا، في نظري، من أسباب عجزه وضعفه وهوانه، بمعنى التعلّق بأحداث ومواقع ووقائع وأماكن وإنجازات حقيقيّة.
أو وهميّة في الماضي، والتركيز في الماضي على ما هو إيجابيّ دون غيره، وتناسي الإخفاقات والهفوات والأخطاء ورفض استنتاج العبر الصحيحة، وعدم الاكتفاء بذلك، بل الحزن على فقدان تلك الذكريات في الوقت الحاضر، دون العمل بجدّ على تحقيقها، بحكم اعتياد الذاكرة البشريّة عامّة، ولدوافع سياسيّة أحيانًا،
وهذا ما سنعود إليه لاحقًا، فاسترجاع الماضي بطريقة انتقائيّة، أي الحنين إلى الأفضل وتجاهل السيئ، إلا أن الأحداث والتطورات السياسيّة الأخيرة على الصعد المحليّة والقطريّة والعالميّة، تؤكّد أن هذا الحنين لم يعد مجرّد عاطفة إنسانيّة وشوق إلى ماضٍ بعيد،
بل إنه في الأحداث الحاليّة التي يشهدها العالم، ومنها استمرار الحرب في غزة و بين إسرائيل وحركة "حماس" بصفتها الثنائيّة بل المتناقضة، حركة مسلّحة دينيّة يتمّ تمويلها من إيران الشيعيّة وتفرّعها عن حركة" الإخوان المسلمين "السنيّة، وتمسّك إسرائيل باستعادة التواجد العسكريّ في قطاع غزة خاصّة على محوري بمعنى العودة إلى ما قبل عام 2005 أي ما قبل الانسحاب من طرف واحد من القطاع،
ومحور فيلادلفيا( صلاح الدين) بمعنى العودة إلى الماضي، قبل اتفاقيّات كامب ديفيد، الحرب على الحدود الشماليّة بين إسرائيل وحركة "حزب الله" الشيعيّة المموّلة ماليًّا والمدعومة عسكريًّا من إيران، والمواجهة وإن كانت محدودة ومتقطّعة بين إسرائيل والحوثيّين في اليمين والمموّلين ماليًّا وعسكريًّا من إيران والموالين لها بشكل تامّ ومطلق،
والحرب بين أوكرانيا وروسيا والتي تتواصل بين كرّ وفرّ، وبدأت ضمن محاولة روسيّة لمنع أوكرانيا، وهي دولة استقلّت في تسعينيّات القرن الماضي، وتعتبرها موسكو جزءًا من القيصريّة الروسيّة يريد فلاديمير بوتين استعادتها، أو إعادتها بالحسنى، أو بغيرها، والتحالف الجديد بين تركيا ومصر كجزء من تحسين العلاقات بين تركيا ودول الخليج، أصبح عاملًا يحدّد السياسات ويصوغها ويحدّد طريقة ووسيلة تنفيذها، والأمر سيّان حين الحديث عن اليوم التالي في قطاع غزة خاصّة رفض إسرائيل بحكومتها اليمينيّة المتطرّفة الحاليّة،
أيّ دور للسلطة الفلسطينيّة ورفض اعتبارها عاملًا له دوره، أو حتى الاعتراف بوجوده، بل التهديد بحلّه وهدمه جرّاء مشاريع قرار تقدّمها السلطة الفلسطينيّة إلى الأمم المتحدة، بمعنى الحنين إسرائيليًّا إلى الماضي قبل اتفاقيّات السلام مع منظمة التحرير الفلسطينيّة في أيلول 1993، والحديث عن اليوم التالي هناك عبر إيجاد عامل، أو هيئة، أو جسم حاكم جديد ليس "حماس"، وليس السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة،
بل جسم، أو شخص آخر تقبل به جهات عدة في آنٍ واحدٍ معًا هي دول عربيّة عامّة وخليجيّة خاصّة تربطها بإسرائيل علاقات صلح واتفاقيّات إبراهيميّة، والولايات المتحدة وإسرائيل دون سؤال أصحاب الشأن، ما يمكن وصفه بأنه حنين إلى ماضٍ تم فيه تنصيب قيادات مسؤولة عن الشعب الفلسطينيّ دون سؤاله، يتم دعمها أمنيًّا وعسكريًّا وسياسيًّا من دول خارجيّة، دون سؤال أصحاب الشأن.
الحنين إلى الماضي إسرائيليًّا والمتعلّق بمحوري نتسريم وفيلادلفيا، وإن كان حنينًا سياسيًّا من جهة بنيامين نتنياهو يريد به ضمان استمرار سلطته، وربما إقناع الجميع وبخلاف الحقيقة، أنه لم يقبل أصلًا الانسحاب الإسرائيليّ من قطاع غزة، والذي تم إقراره في عهد حكومة أريئيل شارون، رغم أنه صوّت إلى جانب الانسحاب ثلاث مرات على الأقلّ، وتغذّية الماكنة الدعائيّة التي تعمل لصالحه، والتي تواصل العمل دون توقّف إلقاء تهمة المسؤوليّة التامّة عن النتائج المأساويّة إسرائيليًّا والإخفاق العسكريّ والسياسيّ والاستخباراتيّ على الجيش وسلطات الأمن،
وإبعاد بنيامين نتنياهو عن هذه الساحة، وبالتالي إجهاض أيّ محاولة لتشكيل لجنة تحقيق رسميّة تفحص الهجمات الحمساويّة، وما سبقها من إغداق ملايين الدولارات على "حماس" بأوامر مباشرة من نتنياهو ومطالبات شخصيّة من موفديه ومبعوثيه ومنهم رئيس جهاز الموساد السابق يوسي كوهين في قطر، وبالتالي لإلغاء أيّ احتمال لانتخابات برلمانيّة مبكرة، وقبل ذلك منع أي صفقة تبادل للرهائن تعني وقف الحرب وتفكّك ائتلاف نتنياهو الحاليّ، كما أنها في مجملها حنين إسرائيليّ يمينيّ متديّن واستيطانيّ إلى مطلع تسعينيّات القرن الماضي،
ومحاولة أو رغبة دفينة في تجديد واستئناف الاستيطان اليهوديّ في قطاع غزة باعتبارها في نظر شركاء نتنياهو من اليمين الاستيطانيّ ميراث الآباء والأجداد، وجزء من أرض إسرائيل الكبرى أو التاريخيّة، وهو الحال ربما بالنسبة لأطماع تغذّي بعض المواقف السياسيّة لشركاء في ائتلاف نتنياهو الحاليّ، والمطالبة بحرب شعواء ضد لبنان تنتهي ربما كما صرّح بعض الضباط والحاخامين من اليمين إلى احتلال الجزء الجنوبيّ من لبنان، لأنه جزء من أرض إسرائيل التوراتيّة،
وكلّها خطط ومواقف قوامها حنين إسرائيليّ استيطانيّ إلى أيام خلت كان اليمين المتطرّف فيها ومنذ العام 1977 بعد زيارة الرئيس المصريّ الراحل أنور السادات إلى إسرائيل، الرافض الدائم لأيّ حلّ سياسيّ، أو إخلاء لأيّ مستوطنة أينما كانت، فهو الذي عارض الانسحاب من مستوطنات سيناء وخاصّة مستوطنة "ياميت" بحكم تفاصيل وبنود اتفاقيّة "كامب ديفيد". وكلّنا نذكر اعتصام المستوطنين في منازل المستوطنة، وفوق أبراج تخزين المياه، وفي مقدّمتهم رئيس مجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ الحالي والوزير اليمينّ والليكوديّ السابق تساحي هنجبي،
وبالتالي فإن التواجد العسكريّ الإسرائيليّ في غزة عامّة ومنطقة محور فيلادلفيا خاصّة، وهي المنطقة الفاصلة بين قطاع غزة ومصر خاصّة، تعني استعادة معظم مكوّنات الاستيطان اليهوديّ هناك، ومنع أيّ إمكانيّة لقيام كيان فلسطينيّ خاصّة إذا ما أضفنا إلى ذلك رفض إسرائيل للتعاطي مع السلطة الفلسطينيّة والسيطرة شبه المطلقة للوزير في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريتش وزير الماليّة، على مجريات الأمور في الضفة الغربيّة،
وتنفيذ سياساته وأجنداته الداعمة للمستوطنين والتي تعتبر السلطة الفلسطينية عدوًّا لدودًا وتريد سيطرة إسرائيليّة يهوديّة على الضفة الغربيّة ضمن برنامج "الحلّ النهائيّ " الذي طرحه سموتريتش من العام 2017 والذي يتحدث عن سيطرة إسرائيليّة تامّة على الضفة الغربيّة، ومنع أيّ شكل من أشكال السيادة الفلسطينيّة، وتخيير الفلسطينيين بين البقاء كرعايا من الدرجة الثانية، أو حتى الثالثة، دون أي حقوق والقبول بالفوقيّة اليهوديّة، أو الرحيل أو القتل، وصولًا إلى دولة اليهود من النهر إلى البحر في المرحلة الأولى وفق توجّهات سموتريتش الخلاصيّة والتوراتيّة.
والشيء بالشيء يذكر، فحنين القيادة الإسرائيليّة الحاليّة إلى الماضي، ولو كانت دوافعه ربما شخصيّة وفئويّة وليست أيديولوجيّة، وهو نتاج تطوّرات تاريخيّة وسياسيّة كان لحكومات حزب "العمل" أو "المعراخ" بتجلّياتها وتغيرّاتها التاريخيّة قسط وافر في دعمها، أو السكوت عليها، يقابله بل ويرتبط به بشكل يديم الصراع الدمويّ في المنطقة ويُبقي رياح الحرب قائمة وعلى أكثر من جبهة، حنين إيرانيّ فارسيّ إلى الماضي عبر السعي إلى بسط نفوذ ولاية الفقيه، عبر تعزيز نفوذها خاصّة من خلال حركات أصوليّة مسلّحة تسيطر عمليًّا على مقدّرات وسياسات دول بكاملها،
كما هو الحال في لبنان التي يتصرّف "حزب الله" فيها كأنه الآمر الناهي ، واليمن التي يسيطر عليها الحوثيّون، بعد أن دمّرتها حرب عبثيّة سارعت دول خليجيّة إلى تنفيذها واختارت لها، كجزء من التسميات واللفظيّات الديماغوغيّة التي يزخر بها الواقع العربيّ اسم "عاصفة الحزم"، وسوريا التي تعتبر إيران بالتعاون مع روسيا الضامن الوحيد لبقاء بشار الأسد في منصبه، بعد حرب أهلية دموية قتلت نحو مليون سوري وهجّرت الملايين إلى أوروبا،
أو إلى الأردن خاصّة مخيم الزعتري، في تعبير آخر عن خصوصيّة التعامل الأردنيّ مع اللاجئين سواء كانوا الفلسطينيّين الذين حصلوا على الجنسيّة الأردنيّة بعكس باقي الدول العربيّة، أو اللاجئين السورييّن الذين احتواهم الأردن رغم العبء الذي يشكّله ذلك على اقتصاده ومؤسّساته وحياته اليوميّة، وإلى ذلك يضاف التحوّل الإيرانيّ الجديد والمتمثّل بتحسين العلاقات مع الدول المجاورة بما فيها السعوديّة بوساطة صينيّة،
والعراق كذلك والذي تزداد فيه قوة العناصر والمليشيّات الشيعيّة ابتداءً من الحشد الصدريّ إلى "حزب الله" العراقيّ وغيره، من منطلق واحد ووحيد هو السعي إلى استعادة أمجاد الإمبراطوريّة الفارسيّة، وبسط نفوذها على كافّة المناطق التي تعتبرها إيران الخمينيّة جزءًا منها، وهنا مكمن الخطورة وتحديدًا في حنين إلى الماضي ، تدمج إيران لتحقيقه ثلاثة عوامل هي العسكر والسلاح التقليديّ، وتمويل حركات دينيّة مسلّحة، والدين أي محاولة توسيع رقعة التواجد والنفوذ الشيعيّ في المنطقة، إلى دول أخرى ودعم الجماعات الشيعيّة المدنيّة، كما في البحرين، والسلاح النوويّ الذي تعتبره القيادة الإيرانيّة الحاليّة جزءًا لا يتجزّأ من الوسائل لتحقيق "الحنين إلى الماضي"،
عبر تحالفات سياسيّة مع الصين وروسيا التي كان حنين قيادتها الحاليّة وخاصة فلاديمير بوتين للعودة إلى حقبة تاريخيّة، أو عصر ذهبيّ للأمّة الروسيّة، أحد مبرّرات إقدام روسيا على اجتياح أوكرانيا لشعورها بالإهانة بسبب الانتقاص من سيادتها بعد تفكّك الاتحاد السوفييتيّ، وبفعل تمدّد حلف شمال الأطلسيّ إلى مناطق تعتبرها روسيا بعض أراضيها، وهو السبب الأوّل، بل الوحيد ، للحرب الدائرة في أوكرانيا منذ أكثر من عامين والتي يبدو أن العالم اعتاد وجودها وأنها تحوّلت، وهو ما يخشى كثيرون تكراره في غزة، إلى حرب عاديّة، بل يوميّة لا تصل العناوين إلا في حالات خاصّة.
وأوروبا بسياساتها الحاليّة، وخاصّة بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوروبيّ الأخيرة وتصاعد النفوذ والتوجّهات اليمينيّة المناوئة للعولمة بمفهومها المدنيّ من حيث فتح أبواب أوروبا أمام الشعوب الأخرى واللاجئين، والتي اعتبرها كثيرون ردّ الفعل القوميّ المتطرّف على العولمة وخاصّة ظاهرة زيادة موجات المهاجرين من الجنوب إلى الشمال ، أي من دول الشرق الوسط وآسيا، ومعظمها هنا في هذا السياق دول إسلاميّة، وخاصّة على ضوء ما نشاهد في بلجيكا وفرنسا من جاليات إسلاميّة ترفض الاندماج في الحياة الجديدة،
وبالتالي تعيش بعض الدول الأوروبيّة اليوم وكردّ فعل يمكن تفهّمه وتبريره ربما، حالة من الحنين للماضي خاصّة في بعض مجتمعاتها التي أصبحت تشعر بالقلق على أوضاعها السياسيّة والاقتصاديّة والحريّات الشخصيّة والنسيج الاجتماعيّ فيها، وهو ما مهّد الطريق وفتح الباب على مصراعيه اليوم بشكل واضح ، أمام تعاظم قوة التيّارات اليمينيّة المتطرّفة وصعود قادة شعبوبّين معادين للهجرة بتسميتها الواسعة، والتي تشمل جزئيّات أدق منها الرغبة في المحافظة على أوروبا أحادية الطابع والثقافة والمفاهيم، أو حنين بالعودة إليها، وبروز قادة كانت بوادرهم الأولى في هنغاريا وبولندا وهولندا،
لا يخفون مشاعرهم ومواقفهم وسياساتهم التي تحنّ إلى الماضي محاولةً تلطيف ذلك الحنين بأوصاف دبلوماسيّة وصياغات تخفي الحقيقة، لكنّها تشكّل الوجه الأخر، أو ربما الردّ على حنين إلى الماضي، تعيشه المجموعات السكانيّة العربيّة عامّة والمسلمة خاصّة في أوروبا، أي جعلها غير قادرة، أو ربما غير راغبة في الاندماج في حياة جديدة وسط مجتمع غربيّ يحمل قيم وعادات اجتماعيّة مختلفة ، خاصّة وأن هذه المجموعات تشكّل أقليّات من حيث العدد، لكنها تعيش وسط تزايد وتعاظم توجهات دينيّة أصوليّة داخلها تنمّي فيها الحنين إلى ماضٍ كانت هي فيه الأكثريّة،
أو صاحبة السيطرة والقول الفصل، وتحديدًا تلك التوجّهات التي تدعو إلى إقامة خلافة ودول شريعة، وتعتمد الإقصاء الذاتي من جهة عبر ابتعاد عن المشاركة في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والتشغيليّة والإنتاجيّة والتعليميّة والإبداعيّة والأكاديميّة، ورفض للانصياع للقوانين التي تشرعها برلمانات هذه الدول ذات الأغلبيّة الأوروبيّة المنشأ المسيحيّة الديانة، وبالتالي الخروج على القانون ومحاولة فرض الآراء والمواقف بالقوة أو بالإكراه، وربما عبر ممارسة العنف والإرهاب.
وعودة إلى بداية مقالي هذا ، فالحديث عن اليوم التالي في غزة يعكس كما قلت حنينًا إلى الماضي، وهو الحال كما يبدو في قضية تحديد هويّة الجهة السياسيّة، أو الشخصيّة السياسيّة التي ستتولى زمام الأمور خلفًا لحركة "حماس" في قطاع غزة، وتحديدًا العودة إلى ترديد اسم القيادي الفتحاويّ السابق محمد دحلان، كمرشح لهذه المهمّة، وسط اقتراحات مختلفة ومتنوّعة وخطط مطروحة على الطاولة تقترح إحداها أن يرأس دحلان قوّة أمنيّة فلسطينيّة قوامها 2500 جنديّ، تعمل بالتنسيق مع قوة دوليّة لحفظ الأمن،
بعد أن تنسحب قوات الجيش الإسرائيليّ من قطاع غزة، مع التأكيد على أن أفراد هذه القوة سيخضعون لفحص من الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر، دون أن يكون ولاؤهم للسلطة الفلسطينيّة، على أن يتوسّع دور هذه القوة لاحقًا، وأن يكون لها دور في إعادة إعمار قطاع غزة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن محمد دحلان رئيس جهاز الأمن الوقائيّ الفلسطينيّ في القطاع سابقًا، والذي غادر القطاع عام 2007 بعد سيطرة "حماس" العسكريّة عليه، هو ابن خانيونس،
وهي منشأ يحيى السنوار، القياديّ البارز في "حماس" والذي تتّهمه إسرائيل بتعطيل أيّ اتّفاق لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، مع الإشارة إلى أن دحلان هو أحد الزعماء الفلسطينيّين الذين يمكن اعتبارهم مستقلين عن "حماس" والسلطة الفلسطينيّة على حد سواء، ما يجعله شخصًا يمكن لإسرائيل والولايات المتحدة التعامل معه، خاصة على ضوء مكانته الحاليّة كمستشار لمحمد بن زايد، زعيم الإمارات، ما يشكّل ربما تكرارًا لحالة سابقة كان دحلان فيها "مرشّحًا" للرئاسة الفلسطينيّة، بعد رحيل ياسر عرفات، قبل أن يتم استبعاده من صفوف منظّمة التحرير الفلسطينيّة وحركة "فتح"، وبالتالي مغادرة المناطق الفلسطينيّة، علمًا أن دحلان نفسه نفى نهائيًّا هذا الاقتراح،
مع الإشارة إلى أن ما يحدث في هذا السياق، يشكّل عمليًّا انعكاسًا للواقع الفلسطينيّ والعربيّ المأزوم الذي لم تسمح قياداته وسلطاته وأنماط الحكم فيه بتنمية قيادات بديلة، تمكّن المواطنين العاديّين من تحصيل حقوقهم والتعبيرعن مطالبهم، وتحسين أوضاعهم الاقتصاديّة،
وضمان حريّاتهم وتأمين مستقبلهم، ما يعزز أنماط الحنين السياسي التي تتلاقى احيانًا مع اهداف مغايرة ويتم توظيفها لأهداف غير أهدافها، منها السياسيّة الفئويّة للنخب والقيادات، ومنها ما يهدف إلى تخدير العامّة وصرف انتباههم عن مآسيهم الحاليّة، عبر حديث عن أمجاد الماضي وأحلام بالعودة إليه، لن تتحقّق لكّنها تشكل أرضًا خصبة لأفكار ومواقف متطرّفة وخارجة عن القانون أحيانًا، في تعبيرعن الحقيقة المؤلمة إنه كلما كانت الأوضاع، أو المنظومات السياسيّة، لا تلبّي تطلّعات المجتمعات في الحاضر تنامت مشاعر الفقد لما يعتقد العامّة أنه كان أفضل في الماضي.
ختامًا، أذكر القول الشهير للكاتب والرسّام الأميركيّ ، جون دوس باسوس:" أفضل طريقة لحلّ مشاكل المستقبل نجدها في طيّات الماضي"، وأقول إنه على الشعوب والقيادات أن تتعلّم عبره الهامّة، وأن لا تتّخذه بمعناه السطحيّ، بل بمعناه العميق الذي يطالب باستخلاص العبر من الماضي، وعدم تكرار نفس الأخطاء، أو نفس المحاولات وانتظار نتيجة مختلفة، وبالتالي الحذر من تكرار الماضي والحنين إلى نسخ أخرى منه، ففي هذا آفة الشعوب وخطر تحجرها ورفضها للتقدّم والاندماج والركون إلى أمجاد غابرة لا تسمن ولا تغني من جوع، بل ربما تثير مشاعر الإحباط والكراهية، وتمنع نمو قيادات تفكر في المستقبل، بل تبنيه، عملًا بالقول إن الماضي قوت الأموات، الحاضر يصنعه الأحياء، المستقبل يرسمه العظماء .. فأين هم هؤلاء من سياقنا هذا.