بين السياسة والفيزياء قوانين مشتركة
دون الحسم في صحّة، أو خطأ موقف واحد من طرفي النقاش والسجال الذي ما زال دائرًا، بل ما زال محتدمًا، والدائر حول العلميّة والدقّة، أو عدمها في السياسة، أي حول كون السياسة المتداولة الداخليّة والخارجيّة منها، وما يتبعها من علوم سياسيّة، علومًا دقيقة ، بمعنى أنها أشبه ما تكون بمعادلات علميّة ورياضيّة واضحة العوامل والتفاعلات الداخليّة، وبالتالي يمكن الجزم حول نتيجتها النهائيّة.

بل يمكن قبل ذلك القول بثقة تامّة إن العوامل الخاطئة، أو الممارسة الخاطئة تضمن الفشل، أو الخطأ وتحول دون التوصل إلى النتائج المرجوة، وبين الانتقادات الموجّهة للسياسة والتي تعتبرها فنّ الممكن،
أو إطلاق السهم والتمنّي بأن يصيب الهدف، بمعنى كونها أقرب إلى الفنّ منها إلى العلم، لأنه من الصعب للغاية التنبّؤ بالسلوك البشريّ. وهي الانتقادات الموجّهة إلى العاملين في مجال العلوم السياسيّة، والتي تتلخّص في أنهم يكتفون تمامًا كما المؤرخين بوصف الأحداث وسردها. وهي انتقادات تجلّت بشكل واضح في الولايات المتحدة، منذ منتصف القرن الماضي، خاصّة مع ظهور ونمو وازدهار ما يطلق عليه العلماء في علم الاجتماع والسياسة "المدرسة السلوكيّة"،
أو الزجّ بين القيم والواقع التي انتقدت الطابع الحدثيّ والتاريخيّ في الدراسات السياسيّة، حيث جُل اهتمامها أكثر بالمؤسّسات والحكّام والحكومات، دون إعارة الشعوب والعامّة أيّ اهتمام يذكر، كما نادت بأسلوب أكثر علميّة في تناول السياسة والاقتراب من طرق البحث والدراسة في العلوم الأخرى وخاصّة تلك البيولوجيّة وعلم النفس، التي تركِّز على دراسة السلوك الإنسانيّ ، ما يجعلها علمًا صافيًا، لأنه من الممكن استخدام المنهج العلميّ لدراسة الظواهر السياسيّة،
إلا أن الأحداث الأخيرة المتزامنة، وتحديدًا خلال الأسبوعين الأخيرين ومنها القمّة الأوروبيّة الاستثنائيّة في بروكسل في السابع من آذار الحاليّ، وزيارة الرئيس الأوكراني فلاديمير زلينسكي إلى الولايات المتحدة في الأول من الشهر الحاليّ، والاستقبال العاصف الذي حظي به خلال اللقاء المفتوح إعلاميًّا في الغرفة البيضاويّة في البيت الأبيض والذي تحوّل إلى سجال حامي الوطيس تجاوز كافّة الأعراف الدبلوماسيّة المتّبعة، أو غير المتبعة وحتى تلك التي يمكن اعتبارها ترامبيّة بامتياز،
إضافة إلى مؤتمر القمّة العربيّة في القاهرة قبل عشرة أيام من اليوم، إضافة إلى أحداث سابقة منها زيارات كانت تاريخيّة إلى واشنطن إحداها زيارة رئيسة الوزراء الهنديّة الراحلة أنديرا غاندي قبل 53 سنة وزيارة فيدل كاسترو في مثل هذا الوقت تقريبا عام 1959، تشير إلى وجود علاقة وطيدة، أو أوجه شبه عديدة بين العلوم والسياسة، حتى وإن أصرّ كثيرون على أنها ليست علمًا، وبكلمات أوضح، وجود علاقات يمكن شرحها بين القوانين الشائعة في الفيزياء وبين السياسة وردود السياسيّين ومواقفهم وتصرّفاتهم.
قد يبدو الأمر لأوّل وهلة غير مفهوم، لكن ثلاثة قوانين أساسيّة في الفيزياء ، تبدو واضحة وجليّة حتى في السياسة، خاصّة تلك الخارجيّة، وأولها ربما نستخدمه يوميًّا في تصرفاتنا ونقاشاتنا، وهو القائل إن لكلّ فعل ردّة فعل مساوية له في القوة، ومضادة له في الاتّجاه، هو ما تحكم بمجريات ومخرجات القمّة الأوروبيّة الاستثنائيّة في بروكسل، وفقًا لكافّة التفاصيل والمعلومات الموثوقة التي رشحت عنها، ووفقًا لكلمات الزعماء المشاركين فيها خلال اللقاء وتصريحات بعضهم قبلها،
خاصّة بعد أن أدرك القادة كلهم، دون استثناء وشاهدوا بقلق وخوف ورعب ما حدث لزميلهم زلينسكي في البيت البيض، وما سبق ذلك من مفاوضات حول وقف الحرب في أوكرانيا، دون مشاركة أوكرانيا في جزئها الأول، بل عبر لقاءات ثنائيّة أميركيّة روسيّة في الرياض العاصمة السعوديّة، ثم لقاءات أميركيّة أوكرانيّة ثنائيّة دون وجود أوروبيّ ولو شكليّ، حتى أن موسكو وواشنطن قبلها، تريدان سلامًا في أوروبا دون مشاركة أوروبا نفسها، في أفضل انعكاس لكون أميركا دونالد ترامب تعمل على وضع تصوّر، أو ربما توجّه أميركيّ جديد ينادي بترتيب أولويّاتها بعيدًا عن أوروبا، أو ربما بغضّ النظر عن تطلّعات وأهداف الدول الأوروبيّة، بعكس إدارة الرئيس السابق جو بايدن الذي تصرّف، وكأن بلاده جزء من الاتحاد الأوروبيّ، أو قائدته، خاصّة بكل ما يتعلّق بالحرب في أوكرانيا ،
وانعكس ذلك في تقديم الدعم العسكريّ والماليّ غير المحدود لأوكرانيا، ومقاطعة روسيا نهائيًّا، بل اعتبار رئيسها فلاديمير بوتين مجرم حرب، وهو توجّه كان ترامب قد بدأه، أو ألمح إليه عبر انسحابه من الاتفاق النوويّ مع ايران، رغم موقف الدول الأوروبيّة وحتى روسيا الداعم للاتفاق وهو ما مهّد ، إذا أضفنا إليه موقف ترامب من زلينسكي ومفاوضات الرياض، لموقف وتوجّه أميركيّة جديدة تتجاوز النفوذ الأوروبيّ التقليديّ كان وزير الخارجيّة الروسيّ قد أجاد شرحه حين قال إن أوروبا لم تعد عاملًا له أهميّته في مفاوضات السلام الأوكرانيّة، ما يعني أن القرارات الحاسمة حتى تلك المتعلّقة بأوروبا ستُتخذ بين واشنطن والكرملين، دون الحاجة إلى أطراف إضافيّة، وهو ما أدّى إلى ردود فعل مساوية في المقدار ومعاكسة في الاتجاه، كان الرئيس الفرنسي عمانوئيل ماكرون الصوت الواضح فيها، إذ أعلن عشيّة القمّة وفي خطاب مُتلفز ، بأن مستقبل أوروبا من المفروض أن لا يتقرّر، أو يحدّد في واشنطن أو موسكو، وتصريحات أخرى منها قول رئيسة المفوضيّة الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن أوروبا تعيش لحظة بالغة الأهميّة في تاريخها، وأنها تواجه خطرًا واضحًا يفرض عليها أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، كما أشارت إلى تعزيز الإنفاق الدفاعيّ والقاعدة الصناعيّة الدفاعيّة،
بمعنى قطع حبل السرَّة بين أوروبا وأميركا دفاعيًّا، وهو الردّ على ما كان ترامب قد قاله لزلينسكي من أن بلاده لم تكن لتصمد أسبوعًا واحدًا لولا العتاد العسكري الأميركيّ، وإلى ذلك يضاف تصريح مسؤولة الشؤون الخارجيّة في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس بأن أيّ اتفاق يتم خلف ظهور الدول الأوروبيّة لن ينجح، وأن أي اتفاق بحاجة لأن تكون أوكرانيا وأوروبا طرفًا فيه، دون أي استرضاء لبوتين، في إشارة إلى كون ترامب يسعى للتفاهم مع بوتين، لإنهاء الحرب الأوكرانيّة بطريقة تحفظ المصالح الأميركيّة، بينما تضمن لروسيا نفوذها في المنطقة، تأكيدًا على أن مفتاح الحلول لم يعد في بروكسل أو باريس،
وأن العالم الجديد تحكمه القدرات الاقتصاديّة والاستراتيجيّة، وهما اليوم أميركا والصين، وهما فقط تملكان القدرة على التأثير، أما أوروبا فتحوّلت تابعًا للسياسات الأمريكيّة دون قدرة على التأثير الحقيقيّ، ما جعل ترامب يغازل روسيا ويحاول احتواءها لمواجهة الصين، نحو عالم ثنائي القطب تكون القارة العجوز فيه طرفًا هامشيًّا، وهو ما أثبتته أيضًا الحرب الأخيرة في غزة وموقف ترامب من الخطة العربيّة، لإعادة إعمار غزة واصراره على رفضها مشترطًا إياها بنزع سلاح "حماس" خلافًا لمواقف الدول الأوروبية التي رحّب بالخطّة.
وكم بالحريّ إذا عدنا الى خطة التهجير التي طرحها ترامب والمتعلّقة بغزة، والإعلان عنها علنًا خلال مؤتمر صحفيّ مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو دون علم الأخير، والأنكى من ذلك دون علم، أو إعلام وإبلاغ الدول العربيّة بها، بل اعتبار هذه الدول ومن ضمنها إسرائيل في عداد الحاضر الغائب، واتخاذ القرارات بدلًا عنها في واشنطن وترشيحها، بل محاولة إلزامها بالمساهمة الفعالة في ثلاثة أمور أولها تهجير فعليّ للفلسطينيّين من القطاع، وثانيها استقبالهم في أراضيها رغم الضائقة الاقتصاديّة والسياسيّة والإنسانيّة التي سيسببها ذلك، وثالثها وإن لم يقلها ترامب صراحة، المساهمة الجزئيّة على الأقلّ إن لم يكن التامة في إعادة الإعمار، ومن ثم تسليمها للولايات المتحدة وربما إسرائيل، وهو ما دفع القادة العرب ولأوّل مرّة إلى ردود فعل عمليّة وقرارات فعليّة في القمة الرسميّة في القاهرة،
أو اللقاء الذي سبقها في العاصمة السعوديّة الرياض، وهو ما برز خلال كلمات القادة العرب المشاركين الذين تحدثوا بلهجة كانت قريبة للغاية، بل ربما مشابهة لتصريحات ماكرون حول موقع اتخاذ القرارات، فأكدت الكلمات رفضًا، ربما لأول مرة لحقيقة كانت سائدة، بل مقبولة من أن القرارات المتعلّقة بحال الدول العربية تتخذ في واشنطن، أو موسكو، أو ربما طهران في السنوات الأخيرة، وهو الحال تمامًا بما يتعلّق بمجريات ما سمي الربيع العربيّ، فما حدث، بدعم خارجيّ في تلك الدول خلال هذه الفترة كان التنفيذ بحذافيره لهذا القانون،
وأقصد أن الثورات التي كانت سلميّة( الفعل وقوته) انتهت إلى نتائج سلميّة، أما تلك التي كانت مسلّحة كما في سوريا وليبيا والسودان، فانتهت إلى حروب أهليّة. والمعضلة أو العامل الأهم هنا لم تكن ردود الأفعال الداخليّة، بل تلك الخارجيّة التي أثّرت في الداخل، كما حدث في سوريا من تدخّلات خارجيّة عربيّة وخليجيّة وأميركيّة وروسيّة وتركيّة، وكما حدث خلال الاعتصامات في ميدان التحرير والتي نظّمتها حركة " الإخوان المسلمين" ضد الرئيس حسني مبارك، والتي استمدّت قوتها من ردود الأفعال العالميّة، وخاصّة مواقف الاتحاد الأوروبيّ وأميركا المتردّدة، بل ربما مالت إلى رفض فض الاعتصامات ودعوة مبارك في النهاية إلى التنحي كما أراد باراك أوباما.
هذا ما حصل أيضًا في سبعينيات القرن الماضي، حين حاولت الولايات المتحدة برئاسة ريتشارد نيكسون ممارسة الضغوط الكبيرة وربما المبالغ فيها، على الهند التي كانت حينها دولة في بداية نهضتها السياسيّة، ولم تكن دولة عظمى اقتصاديًّا، كما كانت قريبة من الإتحاد السوفييتي،
وكما كشفت وثائق رسميّة أميركيّة وثّقت جلسةً بين الرئيس نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر في المكتب البيضاويّ في البيض الأبيض في 5 تشرين الثاني 1971، أي بعد يوم من زيارة قامت بها رئيسة الوزراء الهنديّة أنديرا غاندي إلى واشنطن لمناقشة نوايا الهند في الصراع مع جارتها باكستان التي كانت في حينه حليفا للولايات المتحدة، بينما نظرت واشنطن إلى الهند كبلد مقرّب من الاتحاد السوفياتيّ، علمًا أن نيكسون حتى خلال لقائه غاندي لم يخف اشمئزازه منها ومن مواطني دولتها على خلفيّة عنصريّة، كما مارس عليها الضغوط الشديدة، بل حاول حتى إملاء قرارات أميركا عليها،
والقبول بباكستان الدولة الجارة دولة قويّة تنافسها على إقليم كشمير، وتسعى ربما بدعم أميركي إلى امتلاك أسلحة ذريّة وبعدها نوويّة، إضافة إلى إهانات شخصيّة بلغت مسامعها حتى أنه وصفها بالساحرة الشريرة ووجّه عبارات نابية إلى النساء الهنديّات، لتعود غاندي إلى بلادها مقتنعة تمامًا بمواقف تشكّل نقيضًا تامًّا لما أراده نيكسون وأرادته أميركا،
وأعلنت الحرب على الباكستان، كما نقل عنها قولها لأحد الصحفيّين بعد اللقاء في واشنطن، أنه انتهت إلى دون رجعة تلك الأيام التي يمكن لرئيس دولة ما تبعد عن الهند 4000 كيلومتر أن يملي على الهنديين ماذا عليهم أن يفعلوا. وهو ما حصل مع الرئيس الكوبي فيدل كاسترو الذي زار واشنطن عام 1959، لكنه وإن كانت زيارته غير رسميّة لم يحظ وخلافًا للبروتوكولات المتعلّقة برؤساء الدول، لم يلتق أيًا من المسؤولين الرسميّين الذين تجاهلوا وجوده انطلاقًا من دعمهم للمعارضة الكوبيّة ضد النظام الشيوعيّ برئاستها،
وهو ما أتى بنتائج عكسيّة زادت من عداء كاسترو للولايات المتحدة وصولًا عام 1960 إلى مواجهة "خليج الخنازير". وهي عمليّة عسكريّة أميركيّة بدأ التخطيط لها بموافقة الرئيس الأميركيّ على اقتراح وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة CIA ،لدعم المعارضة الكوبيّة ضد نظام كاسترو. وهي مواجهة باءت بالفشل ونجح الجيش الكوبيّ في نهايتها بأسر نحو 1200 من الجنود الذين أنزلتهم أميركا هناك، ليتضح أنهم كلّهم من المرتزقة وأن الولايات المتحدة دربتهم، إضافة إلى استيلاء كوبا على أسلحة أميركيّة ثقيلة ، ناهيك عن أن الهجوم كاد يؤدي إلى حرب عالميّة ثالثة، أو مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتيّ في حينه.
القانون الثاني، والذي نشاهد انتقاله من الفيزياء إلى السياسة على أرض الواقع هو القانون الذي يقول إن تأثير قوّة أو مجموعة قوى على جسم ما تكسبه تسارعًا يتناسب مع مجموع القوى المؤثّرة فيه، وهو ما نلاحظه في الأيام الاخيرة بما يتعلّق بتوجه روسيا اتجاه الدول الأوروبيّة خاصّة منذ اعتلاء دونالد ترامب سدّة الحكم في الولايات المتحدة، ومقارنته بنفس التوجّه في عهد جو بايدن، وهو عهد امتنعت روسيا فيه عن التحرّش حتى الدبلوماسيّ، أو الكلاميّ بأي من الدول الأوروبيّة متيقنة من وجود واشنطن خلفها وتدعمها، لكنّ هذا التوجه تغيّر فجأة بعد مواقف ترامب الأخيرة المتناسقة مع مصالح روسيا وبوتين ومحاولاته إملاء حلّ على الرئيس الأوكرانيّ زلينسكي، لتتغير هذه اللهجة وهذا التوجه بفعل مجموعة القوى التي تمارسها واشنطن على روسيا،
والتي تقودها إلى التفكير أو الفهم أنها اليوم الطرف القوي ليس فقط عسكريًّا في الحرب الدائرة هناك، بل إنها الأقوى دبلوماسيًّا واستراتيجيًّا جراء التغيرات وأهمّها مواقف ترامب ورغبته في موسكو حليفة له في قضية مواجهته للصين، ومن هنا جاءت تصريحات وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف حول الدول الأوروبيّة، واتهامها بعرقلة انتهاء الحرب في أوكرانيا، وهي حسب رأيه ستنتهي خلال شهر إذا أوقف الغرب إمداد كييف بالأسلحة، واتهامه لبعض الدول الأوروبيّة بأنها ترى أن السلام في أوكرانيا أسوأ من الحرب، ووصفه للرئيس الفرنسيّ ماكرون بالكاذب،
بعد أن قال خلال لقائه ترامب في البيت الأبيض أن فلاديمير بوتين نقض كل الاتفاقيات، واتهامه بأن روسيا تحضِّر لحرب على أوروبا واصفًا ذلك بالهراء، بينما سخر الرئيس الروسيّ السابق ديمتري ميدفيديف من الرئيس الفرنسيّ قائلا إنه لا يشكّل أيّ تهديد ولن يفتقده أحد بمجرد ابتعاده عن الحياة العامّة. وهو ما يتجلّى على أرض المعركة من تكثيف روسيّ غير مسبوق للهجمات على كييف والمدن الأوكرانيّة والسيطرة مجدّدًا على مناطق من أوكرانيا، وهو الحال نفسه في قضيتين أخريين أولهما الحرب في غزة والدعم الأميركيّ غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل منذ بدايتها، سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا،
وهو الذي منح الحكومة الحاليّة الشعور من جهة بأنها محصّنة وتتمتّع بحصانة تامّة دوليّة تسمح لها باستمرار الحرب ومواصلتها كما تشاء، وبكل قوة وشدّة وحدّة تريد دون اكتراث ربما بأعراف دوليّة وقوانين تتعلّق بالحرب، وضرورة منع المسّ بالمدنيين خلالها، وضرورة توفير المقوّمات والمساعدات الإنسانيّة الضروريّة ومنها الماء والدواء والغذاء، وهو نفس الدعم الذي يجعل الحكومة الحاليّة اليوم لا تتورّع عن السيطرة على أراضٍ سوريّة خلافًا للاتفاقيّات الدوليّة التي كانت الولايات المتحدة نفسها راعية لها، وهو نفس الدعم الذي حصل عليه الرئيس السوريّ الجديد أحمد الشرع من أميركا وأوروبا والذي ربما جعل نظامه،
ووفق ما نعرفه عن تصرف أنظمة الحكم الدكتاتوريّة ،يشعر أنه قوي ومحصّن ويمكنه فعل كل ما يريد كما اتضح من أحداث الساحل السوريّ مؤخّرًا وقبلها أحداث ومواجهات منطقة جرمانة قرب دمشق، وهو الحال بالنسبة لتلك القوى التي دعمتها الدول الغربيّة إبان الربيع العربيّ، والتي اعتمدت على هذا الدعم لتحقيق أهدافها ، حتى بدى لأول وهلة وكأن النزعة الثوريّة انتشرت فجأة بين شعوب دول الربيع العربيّ كالنار في الهشيم،
دون أن تتنبه إلى أسئلة ضروريّة وهامّة منها مدى الاستعداد الاجتماعيّ والفكريّ ومن حيث الوعي والإدراك، بين الشعوب العربيّة لتلقي فكرة الديمقراطيّة والحريّة السياسيّة، بل حتى دون أن تتنبه الحكومات في الدول العربيّة إلى أن تمسكها بالسلطة بشكل تام والدعم غير المحدود لأنصارها فقط يمنحهم الشعور بالحصانة، وبأنه يحق لهم فعل ما يريدون من حيث التصرّف بمقدرات الشعوب وثرواتها واغتنام السلطة، دون غيرها وقمع الحريّات والمعارضين.
قانون القصور الذاتيّ، الذي ينص على أن الجسم يظلّ ساكنًا، إذا لم تؤثر فيه قوّة خارجية، هو القانون الفيزيائيّ الثالث الذي ينطبق على الحياة السياسيّة، وبالتالي يطرح أسئلة هامّة تتعلق بما حدث في السابع من أكتوبر 2023، وتحديدًا السؤال هل كانت حركة "حماس" ستقدّم على ما فعلته لولا "تأثير قوة خارجيّة" هي إيران مثلًا وقوة أخرى تتناغم معها وتأتمر بأمرها وهي "حزب الله" ، والجواب الواضح هو النفي، وبالتالي السؤال الأخطر : هل جاء هذا التحرّك بفعل تأثيرات وقوىً خارجيّة، أم خدمةً لقوى مؤثّرة خارجيّة،
والفارق شاسع وكبير. وهو نفس السؤال الذي يطرح حول ما حدث في سوريا، وهل كانت "ثورة" أبو محمد الجولاني، أو أحمد الشرع، لتحدث لولا التأثيرات الخارجيّة وتحديدًا ضعف إيران والضربة التي تلقاها "حزب الله" في لبنان وكذلك " حماس" في غزة، وتغير ميزان القوى في الشرق الأوسط نحو قيادة سعوديّة ومصريّة واضحة تعني تنحية إيران من مكانة الدولة العظمى الإقليميّة جراء أزماتها الاقتصاديّة الخانقة وغيرها. وهو نفس القانون الذي يستدعي طرح السؤال، حول تلك القوى أو القوة الخارجيّة التي أثّرت على الشعوب في الدول العربيّة وجعلتها تطالب بالحريّة، التي اتضح زيفها لاحقًا خلال الربيع العربيّ؟ وهل كانت هذه الشعوب التي صمتت عقودًا طويلة على حكم الزعيم الواحد والظلم وانعدام الديمقراطيّة والحريّة، لتستيقظ، أو بكلمات أشدّ ما الذي أيقظها من غفوتها؟
وهو نفس السؤال الذي يجب أن يطرح مع ازدياد الحديث عن انتخابات برلمانيّة قريبة في إسرائيل، أو اقتراب الموعد القانونيّ للانتخابات البرلمانيّة القادمة عام 2026، وتحديدًا الجانب المتعلّق منها بالمواطنين العرب والأحزاب العربيّة، وهل ستنجح القوى، الداخليّة وتحديدًا العنف المستشري والأوضاع الاقتصاديّة الصعبة والخارجيّة وتحديدًا مواقف الحكومة وشحّ الميزانيات وسيل التشريعات البرلمانيّة المتتالية منذ قانون القوميّة عام 2018 في إيقاظ المواطنين العرب من غفوتهم، أو ربما سباتهم، ليشاركوا في الانتخابات البرلمانيّة القادمة بنفس نسبة مشاركتهم، الحمائليّة والعائليّة وأحيانًا الطائفيّة، في الانتخابات المحليّة، وبالنسبة للأحزاب العربيّة، هل ستؤدّي القوى الداخليّة وتحديدًا حالة القنوط، وربما الخوف التي تسود المجتمع العربيّ من احتمال خطوات مستقبليّة تمسّ أكثر بالمواطنين العرب وتمثيلهم البرلمانيّ وتحتّم ضمان أكبر عدد ممكن من الممثّلين في البرلمان ،
إلى إيقاظ هذه الأحزاب من غفوتها وتقوقعها الذاتيّ من منطلقات شخصيّة وفئويّة ضيّقة، ودفعها إلى تحالف واسع حتى لو كان إداريًّا فقط عشيّة الانتخابات القادمة. وهل ستنجح القوى الخارجيّة ومنها مواقف الحكومة الحاليّة وتهديداتها للنوّاب العرب، وسعيها إلى إخراجهم من الإجماع البرلمانيّ ومن إمكانيّة التأثير المستقبلي ّواتهامهم باتخاذ مواقف مناوئة، أو الانشغال بقضايا خارجيّة وعامّة بعيدًا عن احتياجات المواطنين العرب ومصالحهم، إلى إعادة النظر ولو تكتيكيًّا في المواقف والطروحات نحو خلق تحالفات جديدة تكسر حالة القصور الذاتيّ، وهي حالة يدرك الغرب الجغرافيّ والحضاريّ والسياسيّ، تواجدها في العالم العربيّ وبين العرب داخل إسرائيّل أيضًا، وبالتالي يخلق،
أو يوجِد القوى التي تحرّكهم من الخارج، مستعينًا بحقيقة أن العرب ينجذبون إلى "حكمة الأجنبيّ"، أو بكلمات أقل دبلوماسيّة" عقدة الخواجا" ، وهي نفسها التي استغلتها الدول الغربيّة وأمريكا لتسريع الربيع العربيّ الذي كان وبالًا ودمّر دولًا عربيّة بكاملها، دون أن يحرّك أهلها ساكنًا، بل بالعكس ساهموا في تدمير بلادهم، وهو الحال اليوم بين أوساط معيّنة من المواطنين العرب والنشطاء الحزبيّين الذين يتغنّون بحكمة الغربيّ، ويحاولون تبنّي مقترحات تنفع وتجدي في الغرب، لكنها قد تكون كارثيّة هنا في بلادنا بحكم كون العرب أقليّة، ومنها فكرة مقاطعة الانتخابات، أو العصيان المدنيّ التام ّوغيره، بعيدًا عن أيّ نظرة ثاقبة لمنافع وأضرار كلّ اقتراح، وما اذا كان قابلا للتطبيق هنا وهل من الممكن للعرب في اسرائيل إفراز نخب قياديّة جديدة تعرف من أين تُؤكل الكتف السياسيّة في إسرائيل، ويتعامل معها بالحكمة وفكر وحوار وثقة بأنها ملتزمة بمصلحة العرب في هذه البلاد بأن تكون قراهم متطوّرة وأبناؤهم وبناتهم محميّين من أيّ أذى جسديّ أو فكريّ أو اقتصاديّ أو سياسيّ أم الاستمرار في قيادة المختار حتى الدمار!!!
ختامًا: في السياسة ثلاثة أمور يجب التمييز بينها، وهي متفاوتة في أهميّتها ربما بفعل عوامل حضاريّة وثقافيّة، أولها أسلوب التعامل، وثانيها القيم والأخلاق وثالثها السياسة ذاتها الداخليّة أو الخارجيّة على حدّ سواء، وطالما بقيت هذه الحقيقة غير واضحة وغير مفهومة، واستمر الخلط بين الأمور الثلاثة، دون الاهتمام بالأهمّ والمهمّ، فسيبقى العمل السياسيّ والجماهيريّ في الشرق الأوسط وبين المواطنين العرب داخل إسرائيل ،
يعاني قصورات، فتغليب أسلوب التعامل على السياسة بأهدافها وغاياتها هو خطأ، والحديث عن سياسة مقرونة بقيم وأخلاق ربما يؤدّي إلى حسابات خاطئة وغير موضوعيّة، بل شخصيّة وإلى فقدان مكاسب عينيّة، لأن طرفها السياسيّ الآخر لا يتّفق معي من حيث الطرح السياسيّ، وغيرها، فالتاريخ يثبت أنه في السياسة ليس هناك عدو دائم، أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة، وان العلاقة بين السياسة والأخلاق هي تلك المعادلة التي تبحث عن الضرورات التي تبيح المحظورات، أو أن السياسة كما قال عالم الأحياء البحرية والفيلسوف والطبيب الألمانيّ أرنست هيجل هي علم الأحياء التطبيقيّ !!!!ولنذكر ما قاله محمود درويش " أيّها الأحياء تحت الأرض عودوا، فإن الناس فوق الأرض قد ماتوا".