"آذار بيجمعنا"
زيارة دروز سورية وكسر الحواجز ما آن الأوان لعقد مؤتمر درزيّ عامّ؟, كم يوم يُعدّ بألف يوم وكم يوم يمرّ بلا عِداد؛ منذ الآن فصاعدًا، الرّابع عشر من آذار لن يُعدّ، بعد الآن، يومًا عاديًّا في تاريخ الموحّدين الدّروز, لكنّه يوم بألف يوم، هو علامة فارقة وعيد وطنيّ، يوم اللّقاء والوصل ويوم تدوين التّاريخ.

أواخر عام 2024، ومع سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، خرجت الحشود في مختلف أنحاء الشّام لتحتفل بفجر جديد، فجر النّصر والحرّيّة، إلّا أنّ نشوة النّصر هذه سرعان ما تحوّلت إلى شكوك ومخاوف وهواجس تضجّ مضجع أبناء الأقلّيّات من أكراد وعلويّين ومسيحيّين ودروز،
خوفًا من عواقب تسليم السُّلطة لمجموعات سلفيّة-متطرّفة، كانت أياديها، في الأمس القريب، قد تلطّخت بدماء الأبرياء. ما لبثت الشّكوك والهواجس أن تحوّلت إلى حقيقة مرّة، كانت ذروتها أحداثًا دمويّة قادها عناصر النّظام الجديد الرّافضون للآخر والسّاعون إلى الاستئثار بالسُّلطة وفرض عقيدتهم بقوّة السّلاح. أحداث هي أقرب لتكون مذبحةً عُرفت بِاسم "أحداث السّاحل السّوريّ"، وقد راح ضحيّتها عدّة آلاف من الأبرياء العُزّل أبناء الطّائفة العلويّة، لتطفو في الأذهان مسألة المخاطر الّتي تهدّد أبناء الأقلّيّات المختلفة في ظلّ النّظام الجديد.
تزامنًا مع أحداث السّاحل الّتي استهدفت أبناء الأقلّيّة العلويّة سارع عناصر النّظام السّلفيّ الجديد إلى عدّ العدّة لتوجيه سلاحهم نحو الدّروز؛ إذ جُمعت الحشود لدخول جرمانا، في محيط دمشق، واحتلال السّويداء، عاصمة جبل الدّروز، في محاولة لتنفيذ مجزرة أُخرى في حقّ المواطنين الدّروز وفرض سُلطة النّظام الجديد عنوةً في هذه المناطق، غير إنّ مساعي سماحة الشّيخ موفّق طريف، الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة في إسرائيل، المحلّيّة والإقليميّة، حالت دون ذلك، لتعود مرتزقةُ النّظام ادراجها مكرهةً.
محاولات عناصر النّظام هذه ضدّ الدّروز قطعت الشّكّ باليقين لثلّة المشكّكين الدّاعمين للنّظام السّلفيّ الجديد والمنتقدين موقفَ شيخ عقل دروز سورية، سماحة الشّيخ حكمت الهجريّ، الرّافض للانصياع لهذا النّظام وتسليم سلاح الدّروز من دون ضمانات، ومن أبرز هؤلاء المشكّكين الرّئيس السّابق للحزب التّقدّميّ الاشتراكيّ اللّبنانيّ، وليد جنبلاط، فأثبتت لهم محاولاتهم تلك أنّ حاضنة الدّروز الوحيدة هي أهلهم الدّروز، وأنّه في هذا المحيط لا قضيّة للدّروز سوى قضيّة أمنهم وأمانهم، وأنّ سلاحهم هو الحامي الوحيد لأرضهم وعرضهم، وأنّ وحدتهم وتحالفاتهم المحلّيّة والإقليميّة هي الضّمان الأساس لوجودهم.
هذا الواقع الجديد الّذي أثبت للجميع أنّه "لا حامي للدّروز إلّا الدّروز" أدّى إلى كسر الحواجز لتبدأ مسيرة التّواصل العلنيّة بين الموحّدين، في طرفَي الحدود، كانت ذروتها مبادرة سماحة الشّيخ موفّق طريف إلى تنسيق زيارة دينيّة إلى مقام النّبيّ شعيب، عليه السّلام، في حطّين، باشتراك وفد كبير من مشايخ أجلّاء قادمين من قرى جبل الشّيخ وإقليم البلّان، لتكون بذلك الزّيارة الأولى لدروز سورية إلى إسرائيل منذ حرب الغفران، عام 1973. زيارة رحّبت بها الغالبيّة السّاحقة من أبناء الطّائفة، في المنطقة وخارجها، وعظُم صداها في وسائل التّواصل الاجتماعيّ المختلفة، لتُثبت للجميع أنّ الرّأي العامّ الدّرزيّ، في كلّ مكان، يدعم الفكرة ويطالب بتواصل حقيقيّ ومستمرّ بين أبناء الطّائفة الواحدة في مختلف بقاع الأرض.
في المقابل، ومع أنّ موقف الشّارع الدّرزيّ يدعم هذا التّواصل، برزت محاولات وليد جنبلاط والبعض من مؤيّديه الّذين حاولوا بشتّى الطّرق إحباط الزّيارة والتّنديد بفكرة التّواصل بين الإخوة، إلّا أنّ محاولاتهم كلّها باءت بالفشل، مع الضّغوط والتَّهديدات، الأمر الّذي أثبت، من جديد، البُعد بين الرّأي العامّ الدّرزيّ ومواقف البعض من القيادات التّقليديّة الّتي ترفع مصالحها الشّخصيّة الضّيّقة فوق مصالح الطّائفة وأمنها ووجودها. فبعد أن كانت قد فشلت هذه القيادات التّقليديّة في حماية الدّروز ومصالحهم، وإذ فضّلت التّواطؤ والاستجداء على المطالبة بالحرّيّة والكرامة لأبناء الطّائفة، فقد عادت لتعمل على نسف كلّ مبادرة تصبُّ في مصلحة الدّروز، لتقوية مصالحها الشّخصيّة، مفضلةً بذلك مصالحها الخاصّة على المصلحة العامّة، ما يؤكّد قطعًا نهاية دَور هذه القيادة وسياساتها في إدارة شؤون الطّائفة.
فشل القيادة التّقليديّة والسّياسات السّابقة الّتي يمثّلها وليد جنبلاط ومؤيّدوه تحتّم على أبناء الطّائفة العمل على تفعيل سياسات جديدة تتماشى مع التّغييرات الجيوسياسيّة ومشهد المنطقة الحاضر، وذلك بتبنّي مشروع درزيّ عامّ محورُه صقل هويّة درزيّة جامعة تعمل على تعزيز الانتماء الدّرزيّ لدى أبناء الطّائفة، وترفع مصالح الطّائفة في أعلى سلّم الأولويّات وفوق كلّ اعتبار، لضمان أمن الدّروز ووجودهم في أقطار المنطقة كلّها.
إفلاس القيادات التّقليديّة السّياسيّ وبروز دَور قيادات الدّروز الدّينيّة، ممثّلةً بسماحة الشّيخ موفّق طريف وسماحة الشّيخ حكمت الهجريّ، يحتّم على أبناء الطّائفة الدّرزيّة في الأقطار كلّها تسليم دفّة القيادة إلى السُّلطة الدّينيّة، في هذه المرحلة، ومطالبتها بتشكيل فريق عمل يضمّ مستشارين وخبراء ومختصّين لترسيم سياسة درزيّة موحَّدة وتنفيذ نهجها، بما يضمن مصالح الدّروز وحقوقهم، وذلك من خلال عقد مؤتمر درزيّ عامّ يضمّ مندوبين وممثّلين عن أبناء الطّائفة، في سورية ولبنان وإسرائيل ودول المهجر، تترأسّه القيادة الدّينيّة الدّرزيّة المذكورة إلى جانب مندوب عن الهيئة الرّوحيّة في لبنان، ليكون مؤتمرًا تأسيسيًّا أوّل تنبثق عنه لجان متفرّعة تُعنى بشتّى المواضيع الدّينيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المتعلّقة بالموحّدين الدّروز حول العالم.
للتّحضير لهذا المؤتمر وإخراجه إلى حيّز التّنفيذ وضمان نجاحه ينبغي البدء بلقاءات تمهيديّة واستشارات موسَّعة، على أن يكون أوّلها العمل على انضمام وفود درزيّة من مختلف المحافظات والمناطق السّوريّة واللّبنانيّة إلى الزّيارة السّنويّة التّالية إلى مقام النّبيّ شعيب، عليه السّلام، في الخامس والعشرين من نيسان القادم، ليكون هذا اللّقاء الدّينيّ الخطوة الأولى لعقد المؤتمر الدّرزيّ العامّ وبدء حقبة جديدة في تاريخ الموحّدين الدّروز المعاصر.
الكاتب طالب دكتوراة في العلوم السياسية - الجامعة العبرية القدس