هل غياب الدستور لدولة إسرائيل جعلها طوائف وأسباطًا؟؟؟
بينما تلفظ السنة الأولى من عمر الحرب في غزة أنفاسها الأخيرة، منذرةً ، على ما يبدو، ببدء عامها الثاني ، ومع اشتداد رياح الحرب في الشمال، وسط محاولات أميركيّة خجولة ومحكومة كما يبدو بالفشل مسبقًا، وذلك لأسباب ليست هي المسؤولة عنها، ولاعتبارات ليس لها عليها سلطان
وكلّ ذلك وسط تزايد عدم الاستقرار السياسيّ، ولا أقول الحكوميّ والائتلافيّ فهما في أمان واستقرار، بل ربما ينجح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ،إن آجلًا أو عاجلًا، بتوسيع قاعدة ائتلافه وتهدئة الخواطر فيه، وفق التعريف الدبلوماسيّ،
أو تنحية المشاكس يوآف غالانت وزير الأمن، في عرف أعضاء الائتلاف وجوقة الإعلاميّين والمؤثّرين الموالين لرئيس الوزراء، واستبداله بوزير آخر هو ربما جدعون ساعر، الليكوديّ السابق العائد إلى الحضن الأمّ، بعد أن أذاقه نتنياهو مرارة الفراق ومرارة البقاء على حدّ سواء، تجد إسرائيل نفسها، اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، في مواجهة حجرَي رحى يلازمانها منذ قيامها عام 1948، وتزداد حدّتهما اليوم ،أوّلهما تبعات النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ الذي ربما يمنّي البعض النفس أنه انتهى خاصّة في ظلّ الحكومة اليمينيّة الحاليّة، لكنّه يتواصل مع تغيير عناوينه وأشكاله، بل تتعاظم تبعاته وتفرّعاته، لنشاهدها، كما هي اليوم، على شاكلة حرب في غزة تساندها، مع تساؤلات لازمة حول الدوافع الحقيقيّة، حرب في الشمال ومواجهة عسكريّة مع الحوثيّين في اليمن والمنظّمات الموالية لإيران في سوريا والعراق،
وربما مع إيران نفسها، وثانيهما عدم وجود دستور حقيقيّ تمّت صياغته بالتوافق، ليمثّل كافّة مواطني الدولة بمن فيهم العرب، وليس عبر تشريعات هي قوانين أساس اعتقد مشرّعوها أنها ستبقى صامدة باعتبار أهمّيتها الدستوريّة، ثمّ أتت محاولة الانقلاب القضائيّ الدستوريّ لتثبت العكس، وتحديدًا حين نتحدّث عن الدستور بمعناه الواسع، وليس القضائيّ الصرف والبحت وربما الضيق،
أي دوره في صياغة نوعيّة وشكل العلاقات بين السلطات الثلاث التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة في البلاد، وشكل النظام وتعريفه، أي هل هو دولة ديمقراطيّة ومن ثمّ يهوديّة، أم ديمقراطيّة ومن ثم يهوديّة في حالتنا هذه، ما يعني ضمان سلامة العلاقات بين الأقليّة العربيّة والأغلبيّة اليهوديّة، خاصّة وأن الديمقراطيّة كما قال .. لا تعني فقط حكم الأغلبيّة، بل قبل ذلك ضمان حقوق الأقليّة أيًّا كانت، ناهيك عن تأثير تعريف الدولة على العلاقات بين اليهود أنفسهم، وباختصار أهميّة الدستور في الحفاظ على التوازن التامّ والصحيح بين كافة حلقات وفئات المجتمع الإسرائيليّ السياسيّة والطائفيّة والدينيّة والسياسيّة والإثنيّة. وهو توازن ضروريّ خاصّة في حالات "دول المهاجرين"، أو تلك الدول التي تتكوّن من مجموعات وفئات سكانيّة حتى لو انضوت تحت نفس الديانة، أو القوميّة، كما في حالة المجموعات اليهوديّة، أو الطوائف من أصل شرقيّ، أو إشكنازيّ.
بين حجرّي الرحى المذكورين سابقًا، يمكن الجزم اليوم، ورغم خطورتهما، أن خطورة عدم وجود الدستور، أي انعدام التوازن والتوافق والتفاهم بين مكوّنات المجتمع الإسرائيليّ المتنوّعة وخاصّة تلك اليهوديّة، وسنعود إلى المواطنين العرب لاحقًا، تشكّل الخطر الأكبر خاّصة على ضوء تزايد الفوارق، أو التنافر، وبتعبير أدقّ، بين فئات المجتمع اليهوديّ على خلفيّات دينيّة وعرقيّة (إثنيّة) وطائفيّة ووفق مواقف سياسيّة وانتماءات حزبيّة، وهي تنافرات أكّدتها أربع معارك انتخابيّة انتهت إلى عدم تشكيل حكومة مستقرّة، رغم حكومة التغيير التي استمر عمرها عامًا واحدًا فقط، دون أن تنجح في سدّ هذا التنافر بين اليمين واليسار وبين العلمانيّين والمتديّنين وبين المتديّنين المعتدلين، أو المنتمين إلى التيّارات الدينيّة الإصلاحيّة وبين الحريديم المتزمّتين، والصهيونيّة الدينيّة، وكم بالحري بين الأغلبيّة اليهوديّة والأقليّة العربيّة، والتي كان من المفروض فيما لو كانت إسرائيل دولة تعيش حالة عاديّة، ولا تعاني الانقسام الداخليّ الخطير وانفصام الشخصيّة، بل تشهد انقسامات داخليّة من المؤكّد أنها كانت قائمة وموجودة منذ سنوات يبرز منها الجزء الأعلى والأصغر،
تمامًا كما في حالة جبال الجليد التي يختفي معظمها وخطرها تحت سطح الماء، بينما يطفو على السطح قسمها العلنيّ. ولذلك، يمكن رؤيته ومعالجته بل الحذر منه ومن تبعاته، لكنها برزت بشكل تامّ، وانكشفت معالمها في العقود الأخيرة، وتحديدًا منذ اعتلى الليكود سدّة الحكم عام 1977، واعتمد في كافّة حملاته الانتخابيّة العزف على وتر الانتماء الطائفيّ، أي الخلاف والعداء بين إسرائيل الأولى ، وهي تلك اليهوديّة الأشكنازيّة الغربيّة، ومنها صاحبة توجّهات اشتراكيّة، التي أسّست الدولة وكانت أوروبيّة المنشأ، علمانيّة التوجّهات الدينيّة ويساريّة – اشتراكيّة التوجّهات السياسيّة، وإسرائيل الثانية وهي تلك الطوائف اليهوديّة الشرقيّة، أي اليهود القادمين، أو المهاجرين من الدول العربيّة، وهم أقلّ ثقافة وانفتاحًا، وأكثر تديّنًا وأكثر قربًا إلى اليمين وقبولًا للقيادة التقليديّة والمتديّنة، أي أنها "إسرائيل الثانية" تشكّل حالة مميّزة اختلط فيها البعد السياسيّ بالبعد الطائفيّ بشكل كبير، ممّا خلق تكتّلًا يمينيًّا انضمّ إليه معظم اليهود الشرقيّين وخاصّة أبناء مدن التطوير وسكان الضواحي، والحريديم والذين سعى الليكود إلى استقطابهم عبر خطاب اجتماعيّ شعبويّ يعبّر عن واقعهم، ويستجيب بشكل تلقائيّ لمطالب قياداتهم خاصّة تلك المتعلّقة بالميزانيّات وتمويل الدراسة والإعفاء التامّ من الخدمة العسكريّة، وإضفاء الطابع الدينيّ على مرافق كبيرة في الدولة وخاصّة أيّام السبت، وتشريعات أخرى تمنح القيادات الدينيّة سيطرة شبه تامّة على الأحوال الشخصيّة والمحاكم الدينيّة اليهوديّة، لكنّه يفعل ذلك لأهداف سياسيّة ضيّقة عبر التركيز على ادّعاءات بأنهم يعانون التمييز والظلم الاجتماعيّ،
وهو ما أدّى إلى انقسامات خطيرة وإقصاء متبادل ازدادت حدّته خلال سنوات رئاسة بنيامين نتنياهو للحكومات المتعاقبة، وبفعل فاعل، بين الشرقيّين والغربيّين من جهة وبين المتديّنين والعلمانيّين وكلّنا يذكر ما همس به نتنياهو أمام رجل الدين اليهوديّ المعروف من أصول شرقيّة ، الحاخام كادوري، قبيل إحدى الحملات الانتخابيّة حين قال إن اليسار الإسرائيليّ، وهو الوصف الواسع والذي يستخدمه اليمين الإسرائيلي لوصف العلمانيّين واليسار والأشكناز، وأولئك الذين يؤيّدون حلّ الدولتين، والانسحاب من الضفة الغربيّة، وإنهاء الاحتلال في الضفة الغربيّة، نسي ماذا يعني أن تكون يهوديًّا، ناهيك عن الإقصاء السياسيّ لليمين الاستيطانيّ الإسرائيليّ من قبل بعض الأحزاب العماليّة واليسار الإسرائيليّ، وإقصاء ذاتيّ من المستوطنين أنفسهم، والصهيونيّة الدينيّة، كانت من ورائه أهداف خاصّة تتّضح حدّتها ودقّة التخطيط لها في الأشهر الأخيرة، وخاصّة منذ تشكيل الحكومة الحاليّة،
ومشاركة فئات من اليمين الدينيّ الاستيطانيّ المتطرّف في الحكم، كانت في حكم الإقصاء السياسيّ والبرلمانيّ، وحتى القضائي ومنها حزب "القوة اليهوديّة" برئاسة وزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير وأعضائه وربما أبرزهم النائب تسفي سوكوت، أحد المعتقلين بالجملة من بين المستوطنين المتطرّفين في الضفة الغربيّة سابقًا، ومن أشهر قيادات " شبيبة التلال" وشخصيّة تعقّب "الشاباك" الإسرائيليّ تحرّكاتها. وإليهما يضاف وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش، الذي يوصف في إسرائيل بأنه "هدف دائم للشاباك الإسرائيليّ"، وهو إقصاء يمكن القول إنه تم استغلاله للتعاظم وحيازة التأييد وخلق موطئ قدم وتحضيرات لاحتلال المناصب وتوفير الميزانيات وانتظار الفرصة المواتية، تمامًا كما كان الحال في قضية الانقلاب القضائيّ، وتحديدًا معهد "كوهيليت" اليمينيّ الذي عمل طيلة سنوات عديدة للتحضير، لتسويق مواقفه العقائديّة وتلك المتعلّقة بالانقلاب القضائيّ،
واحتلال المناصب القياديّة في جهاز التربية والتعليم، وتحضيرات اليمين الصهيونيّ المتديّن لاحتلال المواقع القياديّة في الجيش والشرطة والمخابرات وغيرها، كما الحال اليوم، خاصّة وأنه يتمّ الدمج بين استمرار الإقصاء الذاتيّ من جهة، أو تأكيد الفوارق بينهم وبين غيرهم من جهة، وبين استغلال السياسة لتحقيق الأهداف التي يريدها اليمين، دون أن يتمكن من تحقيقها حتى اليوم بوسائل إقصائيّة، أي دون المشاركة في اللعبة السياسيّة وفق قواعدها، ودون ممارسة الاستغلال المتبادل، بمعنى أن يستغلّهم بنيامين نتنياهو لصالحه ولصالح بقائه السياسيّ والحزبيّ، وأن يستغلوه بدورهم للبقاء في مناصبهم ومواقع التأثير، واتّخاذ القرارات والحصول على الميزانيّات الكبيرة، وغير ذلك من الأهداف.
وقبل الخوض في المواقف والأهداف الخفّية والمعلنة التي تقف خلف التوجّهات الانفصاليّة، والتي تصل أحيانًا حدّ الإقصاء الذاتيّ، وهو ما يحدث في كثير من الجاليّات الشرقيّة والعربيّة في الدول الأوروبيّة، التي تنأى بنفسها عن المجتمع الأمّ بكامله، ليس لتحقيق أهداف معيّنة، أو التأهّب لتحقيقها مستقبلًا، بل من منطلق قرارها الخاطئ بعدم الانخراط لأسباب سياسيّة ودينيّة وعقائديّة وغيرها وكلّها مبرّرات وحجج واهية، أؤكد موقفي وإيماني التامّ والدائم بأن الجماعات الدينيّة والعرقيّة والإثنيّة، التي تتّخذ من الانفصال استراتيجيّة عمل دائمة ،
ونهج حياة متواصل، وليس تكتيكًا مدروسًا تريد من خلاله تهيئة الأرض، وتمهيد الطريق أمام اختراق كبير وواسع مستقبليّ لمراكز القوى والتأثير عبر توفير الطواقم العمليّة، وبناء الخطط الواضحة والمحدّدة زمنيًّا وتجنيد المال والعتاد اللازم. وهو ما فعله اليمين الصهيونيّ المتديّن والاستيطانيّ في إسرائيل طيلة سنوات، بل عقود، مصيرها الزوال والخمول والضمور، والبقاء في الخلف، دون أن تتمكن من التقدّم والتطوّر الاندماج والمساهمة من جهة،
ودون أن تجد لنفسها أطرًا بديلة قياديّة واقتصاديّة وسياسيّة تشكّل البديل للإطار العامّ ،وهو بشكل جزئيّ، ما يعيشه المجتمع العربيّ في عدد من مناحي الحياة، وتوجّهات تطفو على السطح قبيل كلّ انتخابات برلمانيّة حول جدوى المشاركة في العمليّة الانتخابيّة واللعبة السياسيّة والتمثيل البرلمانيّ، وتصل أحيانًا حدّ المطالبة بعدم التصويت وعدم المشاركة والتنازل عن التمثيل، وأقول هذا خاّصة إزاء ما نسمعه كثيرًا من أن التوجّهات الانفصاليّة، كما تؤكّد التجارب التاريخيّة، هي واحدة من السمات الملازمة للأقليّات التي تحاول أوّلًا ترتيب أمورها الداخليّة، قبل الانطلاق نحو اندماج تامّ ونشاط كامل داخل المجتمع وعلى كافّة الأصعدة، وبالتالي وإذا كان الأمر كذلك، فإن انتهاء هذه المرحلة الانفصاليّة، وعودة هذه الأقليّات إلى المشاركة التامّة في الحياة ،
هي أمر إيجابيّ بغضّ النظر عن فحواه وطريقة ممارسته والمواقف، باعتبار تلك العودة تشكّل الدليل على انتهاء الانفصال، والعودة إلى الجماعة، لكن هناك حالات في تاريخ بعض الدول والمجتمعات تكون فيها هذه الحالة، حتى وإن جاءت تعبيرًا عن تطورات سياسيّة وحزبيّة ديمقراطيّة هي الانتخابات البرلمانيّة، تحتّم إثارة الأسئلة والتساؤلات والتمعّن في تأثيراتها ومعانيها، وهو ما يجب علينا فعله في حالة اليمين المتديّن الاستيطانيّ المشارك في الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة، وتحديدًا بما يخصّ حزبي الصهيونيّة الدينيّة برئاسة بتسلئيل سموتريتش والقوة اليهوديّة برئاسة إيتمار بن غفير، وزير الأمن القوميّ، وهما أساسًا وبتغيّرات تاريخيّة بسيطة، التياران اللذان يعملان منذ منتصف تسعينيّات القرن الماضي، وتحديدًا صعود بنيامين نتنياهو سدّة الحكم، على زيادة قوة التيار اليمينيّ والاستيطانيّ الدينيّ، وبالتالي السعي المتواصل بوسائل سياسيّة وماليّة وتشريعات قضائيّة،
إلى التحكّم بوجهة إسرائيل المستقبليّة، عبر أمرين أوّلهما حسم الصراع مع الفلسطينيّين ومستقبل الأراضي المحتلّة عام 1967، بمعنى إجهاض أي محاولة لإقامة كيان فلسطينيّ عبر تكثيف الاستيطان وممارسات أخرى كانت غير قانونيّة ومرفوضة حينها ومنها الاستيلاء بالقوّة على أراضي الفلسطينيّين، وإقامة النقاط الاستيطانيّة العشوائيّة ، ونشاطات جماعات المستوطنين المسمّاة "شبيبة التلال" ، لكنها أصبحت اليوم مقبولة سياسيًّا وتلقى الدعم من أعضاء البرلمان الذين يمثّلون هذين الحزبين، الذين يحدّدون اليوم عمليًّا سياسة الحكومة في الضفة الغربيّة والمواقف من الحرب في غزة، ويمنعون أيّ حديث عن عمليّة سياسيّة مع الفلسطينيّين، بل يطالبون بضمّ الضفّة الغربيّة وغور الأردن وتغيير الوضع القائم في الحرم القدسيّ الشريف،
والثاني حسم هويّة الدولة وطابعها كدولة "قوميّة يهوديّة"، أي دولة لليهود فقط، وهو ما كانت حكومة الليكود بمشاركة الأحزاب اليمينيّة والمتديّنة قد بدأته عام 2018، عبر سن "قانون القوميّة" الذي ينصّ على أن إسرائيل هي الوطن القوميّ للشعب اليهوديّ، وأن العرب فيها مواطنون من الدرجة الثانية، وهو ما عبّر عنه البند الذي يلغي صفة اللغة العربيّة كلغة رسميّة في الدولة، ويؤكّد أن بناء البلدات والمدن هو حقّ لليهود فقط، دون أي ذكر لكلمة مساواة، وتشريعات متواصلة أخرى تتعلّق بقوانين البناء والتخطيط ومناطق النفوذ والميزانيّات للسلطات المحليّة العربيّة، وتغيير طابع البلدات العربيّة، ومحاولة اعتبار الولاء للصهيونيّة شرطًا للتصويت والانتخاب والترشّح للبرلمان وغيره، بل المطالبة الواضحة بمنع تشغيل العرب وتقييد حريّة التعبير خاصّة في المؤسّسات الأكاديميّة، عبر سيطرة إيتمار بن غفير على الشرطة وسياساتها والتعيينات الكبيرة فيها.
حسم هويّة الدولة وفق أهواء هذه الجماعات، والتي كانت مرفوضة ومنبوذة طيلة سنوات، وكان عبارة عن مواقف تبنّتها منظّمات يهوديّة يمينيّة متطرّفة منها " رغافيم" التي تنشط خاصّة في منطقة النقب،
ومنظمة " إم ترتسو" وغيرها، واللتان تعتبران قضيّة السيطرة على الأرض، أو امتلاك الأرض القضيّة الأساسيّة، وبالتالي يتمحور نشاطهما حول منع امتلاك المواطنين العرب للأراضي، ومنع بناء المنازل الثابتة في النقب وشرقي القدس خاصّة وكذلك الضفة الغربيّة وخاصّة منظمة "إم ترتسو" اليمينيّة التي تمارس منذ السابع من أكتوبر عام 2023، نشاطًا مكثّفًا يهدف إلى ملاحقة الطلاب الجامعيّين العرب والمحاضرين العرب والعرب عامّة، ومراجعة ومراقبة كتاباتهم في وسائل التواصل الاجتماعيّ، واتّهامهم بالتماهي مع الإرهاب وتأييد حركة "حماس" وحثّ الجامعات والمؤسّسات الأكاديميّة على اتّخاذ خطوات بحقّهم في تعبير عن تحول هذه المنظّمات ومواقفها التي كانت مرفوضة ومنبوذة إلى جهات وعناصر مقبولة، تصل حدّ مخاطبة المؤسّسات الأكاديميّة والقضائيّة وتوجيه دفّتها أحيانًا.
ما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023، من ناحية تصريحات وتصرّفات الأحزاب اليمينيّة المتديّنة والاستيطانيّة يعتبر في نظري خطوة خطيرة. فهو، وإن كان يعني من حيث المشاركة في الحكومة والائتلاف وتولّي المناصب الوزاريّة، نهاية عهد الانفصال في هذه الجزئية، إلا أنه يستوجب وقفة جديّة ومتفحّصة في باقي النواحي والمناحي والسياقات، خاصّة وأن مواقف هذه الحركات وأجنداتها التي تلاقي اليوم آذانًا صاغية وتمويلًا رسميًّا، وتصرّفات أعضائها ومناصبهم الوزاريّة، وتحديدًا على صعيد العلاقة مع الفلسطينيّين والجزئيّة المتعلّقة بالعام الأخير، وتبريرهم لاعتداءات المستوطنين في حوّارة وتصريح وزير المالية سموتريتش حول حرق حوارة والقضاء عليها، واقتحام أعضاء برلمان من كتلة الوزير بن غفير معسكر " سديه تيمان" في الجنوب، ومنع التحقيق مع جنود إسرائيليّين ارتكبوا مخالفات جنسيّة خطيرة بحق معتقل غزّي، وملاحقة المدّعية العامّة العسكريّة، وتصريح وزير التراث عميحاي إلياهو حول إلقاء قنبلة نوويّة على غزة، وآخرها تصريحات النائب تسفي سوكوت التي أطلقها تجاه فلسطينيّ يعالج في المستشفى،
بعد اصابته بجراح خلال عمليّة طعن نفّذها ضدّ الجنود، حينما لم يكتف بالحديث باسمه الشخصيّ، وتهديد المريض بأن يعمل على قتله وموته، بل قال إنه سيعمل على سنّ قوانين تضمن قتله، وهنا مكمن الخطر فهذه كلّها تصرّفات وأحاديث وتصريحات، تنذر بالخطر الداهم، فهي من جهة، تصريحات يعتبرها العالم بمحاكمه الجنائيّة ومؤسّساته الدوليّة تصريحات رسميّة إسرائيليّة بحكم هويّة من اطلقها، وتشكّل أساسًا لشكاوى جنائيّة دوليّة وأوامر اعتقال بحقّ شخصيّات إسرائيليّة رسميّة، كما أنها في نظر العالم والدول الأوروبيّة وحتى مؤيّدي إسرائيل في الولايات المتحدة، مواقف إسرائيليّة رسميّة، وبالتالي فإن انتقال هذه الحركات اليمينيّة من مرحلة التوجّهات الانعزاليّة والانفصاليّة، إلى مرحلة المشاركة التامّة في اللعبة السياسيّة والحزبيّة، يسيء أوّلًا إلى إسرائيل، كما أنه ثانيًا وبحكم تصرّفات وتوجّهات نحو اليهود العلمانيّين واليسارييّن يعزّز مظاهر النفور والانعزاليّة، ولا يطرح أيّ حلّ للتنافر الداخليّ بين اليهود في إسرائيل، بل يقود إلى مزيد من التقاطب والعداء وخلق الفجوات الشاسعة وحتى التخوين، والجذب نحو أمرين كلاهما مرّ إسرائيليًّا، أوّلهما دولة واحدة تشمل فئات متناحرة يحاول اليمينيّون فيها تقييد حريّات غيرهم من اليهود ونزع الشرعيّة عنهم وكم بالحري عن المواطنين العرب، وهو تناحر يخشى كثيرون أن يقود إلى أحد أمرين فإما حرب داخليّة، أو دولة إسرائيل الدكتاتوريّة، أو دولة الشريعة اليهوديّة، وثانيهما الانفصال إلى دولتين، إسرائيل ويهودا ، كما تتداول الألسن .
إسرائيل تجد نفسها اليوم في حالة غريبة وخطيرة، يشكّل بعض مسؤوليها خطرًا عليها أمام الجالية الدوليّة ويؤمنون أنهم سيعيشون وحيدين كما تقول التوراة ، وأنه يمكنهم قول وفعل ما يريدون دون اكتراث للعالم، أو ما سيقوله الأغيار، حتى لو أدّى ذلك إلى حروب طويلة ودماء مسفوكة وحياة على حدّ السيف، لكنّها فوق ذلك دولة يمكن الجزم أن الخلاف داخلها لم يعد، لمن يريد الحقيقة والصدق، بين إسرائيل الأولى والثانية، فهذه المرحلة تقترب من الانتهاء، بعد استيلاء اليمين والشرقيّين من اليهود على مقاليد الحكم ومواقع التأثير، بل إن الصراع هو بين إسرائيل الأولى الاشتراكيّة العلمانيّة والغربيّة والمتطوّرة اقتصاديًّا، والثانية اليمينيّة الليبراليّة القريبة إلى الدين، وفيها تأثير لليهود الشرقييّن، ورغبة في إصلاح غبن الماضي، مقابل إسرائيل الثالثة بقيادة بنيامين نتنياهو ،
والتي تجاهر اليوم بالتوجّه نحو إسرائيل يهوديّة، أو لليهود أكثر وديمقراطيّة أقلّ، وذلك يشمل تغيير النظرة نحو الاحتلال والحلّ المطروح للنزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، عبر إلغائه كليًّا وشرعنة الاستيطان و ترسيخ كون المستوطنين والمستوطنات في قلب الإجماع الرسميّ اليهوديّ، إضافة إلى الكمّ الهائل من القرارات الحكوميّة والخطوات الائتلافيّة، ومنها تعيين بتسلئيل سموتريتش وزيرًا في وزارة الأمن يتولّى مسؤوليّة حكم الضفة الغربيّة، وسيل من القوانين والتشريعات والممارسات لضمّ المستوطنات بشكل تدريجيّ إلى إسرائيل، وخلق واقع يمنع إقامة أيّ كيان فلسطينيّ كامل أو منقوص،
قابل للحياة أو محكوم عليه بالموت بعد حين، إضافة إلى تحطيم العلاقة مع المواطنين العرب في إسرائيل، وتحديد مكانتهم في الدولة على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية يخضعون لفوقيّة يهوديّة أساسها اعتبار إسرائيل الدولة اليهوديّة، أو دولة اليهود.
خلاصة القول ، إسرائيل في طريقها المضمون إلى مرحلة إسرائيل الجديدة، أو الثالثة، عبر ائتلاف يمينيّ وحكومات يمينيّة متواصلة كان نتنياهو رئيسها والمسيطر عليها، عبر تجنيد مجموعات لصالحه مستخدمًا سياسة الإقصاء والتخوين، فهو يستخدم الشرقيّين والمستوطنين واليمين لخدمة أهدافه، ولكن يتّضح اليوم أنها جهات استخدمته طيلة سنوات لنفس السبب، ونفس الغرض، وأنه بتغذيته مشاعر الانعزال والإقصاء لديها إنما دفعها إلى أمرين أولهما المزيد من التطرّف ورفض قواعد اللعبة السياسيّة والقضائيّة، وثانيهما الرغبة في ممارسة الإقصاء بحقّ الغير من اليهود المعارضين، وفوق ذلك العرب داخل إسرائيل والفلسطينيّين،
وهذا نذير شؤم محليّ ودوليّ، فهل يصحّ في حالتنا هذه القول الشهير:" على نفسها جنت براقش"، أيأ تغذية مشاعر الكراهية أدّت إلى تحويل الكراهية والتطرّف والإقصاء إلى سياسة مقبولة وشرعيّة، وأن نتنياهو بذلك إنما جنى على بلاده، أم أن الأمور التي كانت غير منطقيّة أمس أصبحت منطقيّة اليوم عملًا بالقول:" في السياسة لا تشكّل الأمور غير المنطقيّة عقبة".