ماذا بعد أن تصمت أصوات المدافع؟

هكذا كانت الحروب منذ بداية التاريخ وفجر البشريّة، وما زالت، يحاول السياسيّون والجنرالات والمبادرون إليها إلباسها ثوب البطولة والتضحية والحقّ والعدالة، أو البحث عن العدل واسترداد الحقوق، ونشر الرسالة السياسيّة أو الدينيّة.

10.08.2024 מאת: المحامي زكي كمال
ماذا بعد أن تصمت أصوات المدافع؟

 

وبالتالي، فهي حالة تستحقّ في نظر المبادرين إليها، والساعين إلى إطالة أمدها، التضحية في سبيلها، فيعملون على تسويقها باعتبارها فكرة نبيلة واعتبار النصر فيها، وفق ما يرسمه أولئك، أغلى وأثمن ربّما من حياة البشر أو حياة فرد أينما كان، على شاكلة القول من طرف "حماس" و"حزب الله" ولإيران أنّ الجهاد وولاية الفقيه وإقامة دولة الشريعة والحرب في سبيلها أو لتحقيقها إنّما يستحقّ التضحية بمسمّاها الدينيّ "الشهادة"، ويستحقّ أن يتحمّل الناس المشقّة حيث تهدّم منازلهم ليتمّ بناؤها ربّما بعد ذلك أو ينعدم أمنهم وأمانهم وتصبح حياتهم محفوفة بالمخاطر الدائمة وربّما المميتة،

انتظارًا لتحقيق الأهداف التي رسمها السياسيّون والقادة لهذه الحرب، والتي أسفرت في غزّة عن هدم لمعظم منشآتها الحياتيّة الخاصّة والعامّة لن تكفي عشرات السنوات وعشرات المليارات لترميمها وإعادة بنائها، أو على شاكلة تلكّؤ الحكومة في إسرائيل ممثّلة برئيسها بنيامين نتنياهو  في توقيع صفقة لتبادل الرهائن وربّما الفرصة الأخيرة لإنقاذهم، بانتظار النصر المطلق أو التامّ الذي رفعه نتنياهو شعارًا،

حتّى لو كان التلكّؤ وما يرافقه من استمرار للحرب يعني ربّما إزهاق أرواح عدد من الرهائن وإلحاق أضرار مادّيّة بالاقتصاد الإسرائيليّ والبنى التحتيّة، خاصّة في منطقة الشمال التي تشهد منذ الثامن من أكتوبر 2023 صدامًا عسكريًّا محدودًا لكنّه متواصل ويوميّ أوقع عشرات الضحايا من الإسرائيليّين ومئات من أفراد ومسلّحي "حزب الله"، وألحق بالبنى التحتيّة أضرارًا بالغة يتطلّب ترميمها مئات ملايين الدولارات وسنوات من العمل، بمعنى أنّ الحروب  يتمّ كساؤها بثوب برّاق لمن ينظر إليها من بعيد دون تفحّص، ولكن نظرة ثاقبة وبعيدة عن النمطيّة والسطحيّة إليها كفيلة بأن تعرّيها وتكشف حقيقتها الواضحة والمرعبة، خاصّة ذلك الجانب المؤلم والمرعب منها المتعلّق بما يمكن تسميته تفاهة الحياة، أو بُخس  ثمنها، وعلى حدّ سواء حياة الطرفين فيها، عملًا بقول شمشون الجبّار: "عليّ وعلى أعدائي".

 


والحياة هنا، هي تلك بمعناها الواسع والعامّ والشامل التي لا تقتصر على الحياة الجسديّة أي عدد الضحايا والمصابين من طرفي الحرب، وما يليها، وليس فقط من النواحي السياسيّة والعسكريّة، بل أكثر من ذلك ما يليها من الجوانب النفسيّة والمعنويّة والصحّيّة والاقتصاديّة، وجودة الحياة والسلامة العقليّة، ومن هنا فإنّني أؤكّد أنّ الانشغال بالسؤال:

"ماذا بعد الحرب؟"  بمعناه الضيّق السياسيّ والعسكريّ وحتّى الحزبيّ، أي بمن سيحكم قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب؟ أو كيف ستكون الحالة السياسيّة في إسرائيل وقضيّة الانتخابات والاصطفافات الحزبيّة والائتلافيّة في إسرائيل ومصير بنيامين نتنياهو تحديدًا؟ هو انشغال سطحيّ  وخطير،

يشكّل استمرارًا لتوجّه تزيين الحرب بزينة ليست لها، واختصارها في جوانب ضيّقة تتجاهل ما بعدها على المستوى العامّ والجماهيريّ وجوانب الحياة اليوميّة، وبوادر هذه الجوانب بادية للعيان منذ اليوم وحتّى منذ الأسبوع الأوّل للحرب، على صعيد المواقف السياسيّة والتغيّرات الأخلاقيّة وتبلّد المشاعر تجاه الغير واستبخاس حياتهم، والسماح بأن تُرتكب لديهم وبحقّهم أعمال كانت مرفوضة قانونيًّا وإنسانيًّا، وعلى صعيد المشاعر النفسيّة واستفحال مظاهر التوتّر النفسيّ وحالات العنف والإدمان على تناول المهدّئات والمراهنات والمسّ بالحياة اليوميّة كالعمل والتعليم والإبداع وغيره،

ومن هنا فالسؤال الذي يجب أن يسأله القادة في إسرائيل وكذلك "حماس" و"حزب الله" بعيدًا عن زيف مظاهر الحرب، يجب أن لا يقتصر على "اليوم التالي" السلطويّ والإداريّ، بل يجب ان يتعدّاه إلى السؤال: "ماذا بعد أن تصمت المدافع؟" خاصّة على الصعيد  الإنسانيّ، والاقتصاديّ والمعنويّ والنفسيّ والصحّيّ، والعلاقات الداخليّة في إسرائيل ولبنان والسلطة الفلسطينيّة، والعلاقات المتبادلة بين أطراف الحرب، وهل سيعني انتهاء الحرب انتهاء الصراع والعداء والكراهية، داخليّة كانت أم خارجيّة؟ وهل يعني ذلك بدء استعادة الصحّة النفسيّة والمعنويّة للمواطنين والعودة إلى حياتهم الطبيعيّة، بما فيها امتلاك الشجاعة للاعتراف بأنّ لا حرب عادلة أو صادقة، وأنّهم هم من يدفع الثمن أوّلًا وآخرًا؟

 


أسئلة كثيرة حول ما سيكون عليه الحال بعد أن تصمت مدافع الحرب، تطرح خاصّة على ضوء ما حدث خلال الأسبوعين الأخيرين من عمليّات اغتيال وتصفية لقيادات في "حماس" و"حزب الله" والردود عليها إيرانيًّا، مع الإشارة إلى أنّ إيران هي الدولة الوحيدة العضو في الأمم المتّحدة والتي تنادي بإبادة دولة أخرى عضو هي أيضًا في نفس الهيئة الدوليّة وهي إسرائيل، على ضوء الهجوم بالمسيّرات في أبريل نيسان الماضي، وهي أسئلة لا تتعلّق بالجانب الآنيّ للحرب الحاليّة، بل بما هو أوسع وأشمل، وخاصّة بسبب مميّزات الحرب الحاليّة وكونها تشكّل انعكاسًا لحالة عداء ومواجهة، يريد الجميع لها أن تنتهي دون أن يتّفقوا على الطريقة والوسيلة،

ودون الانتباه إلى أنّ من الغباء بمكان استخدام نفس الوسيلة مرّة تلو الأخرى وتوقّع نتيجة مغايرة، وبالتالي لا بدّ من السؤال حول ما إذا كانت عمليّات الاغتيال الأخيرة التي تنفّذها إسرائيل بحقّ قياديّين ونشطاء سواء كانوا من "حماس" أو" حزب الله" ستعيد لإسرائيل قوّتها على ردع أعدائها، وستمنعهم من مهاجمتها أو محاولة المسّ بمواطنيها، وهو أمر اتّضح عدم صحّته، فالتجارب التاريخيّة تؤكّد في حالة المواجهة بين الدول والمنظّمات المسلّحة، خاصّة تلك الدينيّة المنشأ والتوجّهات،

أنّ اغتيال القيادات لا يغيّر من الواقع شيئًا، بل إنّه في عرف الشرق الأوسط والحركات المسلّحة الأصوليّة ربّما يأتي بالنتيجة المعاكسة، من حيث رفع المغتالين، ومن باب الديماغوغيّة والعزف على أوتار العواطف الدينيّة وربّما الغرائز، إلى مرحلة الشهداء والقدّيسين الذين يشكّلون محفّزًا لاستمرار الصراع والمواجهة، بل اشتداده وجعله مواجهة دينيّة جهاديّة لا تقف عند حدّها، ناهيك عن أنّها تجعل من الغير عدوًّا لا قيمة لحياته ولا مبرّر لحمايته،

بل إنّ هناك مسوّغات لقتله والتنكيل به، استنادًا الى فتاوى دينيّة الظاهر سياسيّة الحقيقة، تحاول إضفاء صفة العدل على الحرب ووصفها بأنّها ردّ أخلاقيّ ودينيّ على عمل غير أخلاقيّ وغير دينيّ، وهو ما تعوّدنا على تسميته "نقاء أو طهارة السلاح" أي عدم استخدامه ضدّ المدنيّين، وهو مصطلح تمّ خرقه مرارًا كمذبحة كفر قاسم والطنطورة وقضيّة الباص رقم 300 وغيرها،

وبالتالي تبرّر من جهة هجمات السابع من أكتوبر وتعتبرها جهادًا، كما تبرّر من جهة أخرى تصرّفات معيّنة تمّت بحقّ معتقلين فلسطينيّين من القطاع كما اتّضح من أحداث سجن "سديه تيمان" واقتحامه من قبل مئات اليهود اليمينيّين ومعهم عدد من نوّاب البرلمان ووزير هو عميحاي إلياهو من حزب الوزير إيتمار بن غفير، وسط أنباء كاذبة أطلقها وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش حول قيام النيابة العسكريّة بحثّ فلسطينيّين على تقديم الشكاوى بحقّ الجنود، وما اتّضح من اعتداءات على بعضهم، تعكس، حتّى وإن كانت فرديّة وقليلة بل نادرة، تدهورًا في القيم يشهده المجتمع الإسرائيليّ منذ السابع من أكتوبر،

يأمل كثيرون أن تزول معالمه إذا ما انتهت الحرب، وطوبى للمؤمنين بذلك، خاصّة على ضوء ما يتّضح من ازدياد الإيمان بين الفئات المتديّنة وغير المتديّنة في إسرائيل، من أنّه إذا كان الحديث يدور عن أيّ من الأعداء أو الذين يُصنّفون بأنّهم أعداء، وبغضّ النظر عمّا إذا كان مشاركًا في عمل عسكريّ أم لا، فإنّه يحقّ للجنود أن يرتكبوا بحقّه ما يشاؤون من قتل وتنكيل واعتداءات جسديّة وجنسيّة، وهي حالة كانت بذورها الأولى قد نمت في حادثة الجنديّ ألئور أزاريا الذي أطلق النار عام 2016 حتّى الموت على الفلسطينيّ  الجريح عبد الفتّاح الشريف، في مدينة الخليل، وحاول سياسيّون منع محاكمته باعتبار ما قام به عملًا شرعيًّا وقانونيًّا، وسنعود إلى هذا لاحقًا.

 


هذا الحال من حيث نزع الشرعيّة وقدسيّة الحياة من كلا الطرفين تجاه الطرف الآخر، ومحاولة الحديث من قبل كلّ من طرفي أو أطراف الحرب الحاليّة في غزّة وعلى الحدود الشماليّة، بأنّ الآخر يخرق التشريعات الدوليّة والأعراف المتعلّقة بالحرب وخاصّة تلك المتعلّقة بالمدنيّين وغير المشاركين فعليًّا في الحرب، يعيدني إلى كتاب "الأخلاقيّات والحرب" لمؤلّفه ديفيد فيشر وهو خبير استراتيجيّ، وهو كتاب يستوجب أو يجبر على إعادة التفكير في العلاقة الممكنة أو غير الممكنة بين الأخلاق والحرب، ويؤكّد ويشدّد على أنّ هناك مبدأ واحدًا يحدّد مدى عدالة الحرب،

بل إنّه ربّما المقياس الأوّل والوحيد لها، وهو  مبدأ الحصانة بالنسبة لغير المقاتلين أو "غير المتورّطين" وفق المصطلح الإسرائيليّ، أي ضرورة ومدى الامتناع عن إلحاق الضرر بالمواطنين العاديّين، ما يعني تحريم قصف المدنيّين واستهدافهم عمدًا، وعدم تنفيذ عمليّات عسكريّة تستهدف مدنيّين إسرائيليّين من جهة أخرى، ليس فقط خلال الحرب بل قبلها وبعدها أيضًا، أمّا إذا حصلت حالات حملت فيها الحرب أضرارًا للمدنيّين وغير المتورّطين، فيجب أن تكون جزءًا غير مقصود وأحد الجوانب السلبيّة المرافقة للحرب  والتي لا مفرّ منها، وليست هدفًا بحدّ ذاته،

وهو لا تشهده الحرب الحاليّة بخلاف حروب سابقة تضرّر خلالها المدنيّون فقامت الدنيا إسرائيليًّا على الأقلّ ولم تقعد، كحرب لبنان الأولى عام 1982، ولكن يتّضح أن ذلك ماضٍ لن يعود، وأنّ الحاضر ضمن مواقف الرأي العامّ الإسرائيليّ وكذلك في طرف "حماس" يجيز كلّ شيء ويسوّغ كلّ مسٍّ بالعدوّ وأبناء جلدته، وهي حالة تثير القلق ضمن الحديث عمّا سيكون عليه الحال بعد أن تصمت أصوات المدافع، فلسطينيًّا وإقليميًّا وإسرائيليًّا.

 


في هذا السياق يحضرني قول ونستنون تشرتشل: "الحرب قرار، الهزيمة تحدٍّ، النصر شهامة، والسلام ارتياح"، وتتكشّف الهوّة بين القيم التي يعكسها هذا القول وبين حالنا اليوم، فصحيح أنّ الحرب قرار لكنّه اليوم قرار بمبرّرات غير مقنعة، وصحيح أنّ الهزيمة تحدٍّ بمعنى أنّ هزيمة العدوّ تستوجب العمل العسكريّ الجادّ وتحدّيًا عسكريًّا واضحًا، والحال اليوم ليس كذلك، فالحرب مستمرّة دون تحدٍّ واضح ودون حسم، والنصر شهامة، وهو ما اتّضح عكسه منذ السابع من أكتوبر وخلاله من تجاوزات وفظائع تمّ ارتكابها بحقّ مدنيّين إسرائيليّين عزّل انتصرت عليهم قوّة السلاح  الحمساويّ منذ اللحظة الأولى،

ورغم ذلك تعرّضوا للاعتداء والتنكيل والاغتصاب بعيدًا عن أخلاقيّات الحرب التي تحرّم إلحاق الضرر بالمدنيّين، والسلام ارتياح لكنّه لن يأتي في حالتنا هذه حتّى لو انتهت الحرب وارتاحت إسرائيل من خطر "حماس" و"حزب الله"، فالتقارير والمعطيات تشير إلى أنّ الحال أسوا من أن يؤدّي انتهاء الحرب إلى ارتياح ما، خاصّة إذا ما نظرنا إلى معطيات تؤكّد حالة الخوف والهلع والرعب التي يعيشها المواطن العاديّ في إسرائيل،

خاصّة وأنّ المعطيات كلّها بل الوقائع ومنها أحداث "سديه تيمان" تشير إلى تعاظم قوّة وتأثير وعمق المواقف المبنيّة على الكراهية للعرب وللفلسطينيّين وكذلك لقوى الأمن الإسرائيليّة وأفرادها الذين يريدون منع تصرّفات غير قانونيّة، والنيابة العامّة التي تؤكّد أنّ عدم المسّ بالسجناء إضافة إلى كونه الأمر المفروض على الدولة التي تعتقلهم، إنّما هو دفاع عن دولة إسرائيل ودرء لخطر محاسبتها من محكمة العدل الدوليّة أو محكمة الجنايات الدوليّة،  هذا إضافة إلى معطيات أخرى نُشرت مؤخّرًا حول كون 64% من أبناء الشبيبة في إسرائيل يعانون حالة خوف عالية الحدّة، وأنّ 51% منهم يكرهون العرب بشدّة، وأنّ 50% من أبناء الشبيبة اليهود العلمانيّين يشعرون بالغضب الشديد على نظرائهم المتديّنين والمتزمّتين، وأنّ 12% من اليهود المتديّنين يشعرون بكراهية تجاه اليهود العلمانيّين، ما يؤكّد تعاظم مشاعر الكراهية والتطرّف والخوف والغضب في أوساط المواطنين اليهود تقابلها مشاعر الخوف لدى المواطنين العرب واتّجاههم نحو إسكات صوتهم وإخفاء هويّتهم ومواقفهم،

وهي معطيات مردّها وسائل التواصل الاجتماعيّ التي تشكّل المصدر الأوّل الذي يستقي منه الشباب معلوماتهم ويبلورون مواقفهم، هذا طبعًا إضافة إلى ظواهر أخرى تؤكّد أنّ تبعات الحرب لن تنتهي بنهايتها، بل ستتواصل سنوات وسنوات، ومنها ازدياد كبير في المحتاجين للعلاجات النفسيّة والاستشارات المهنيّة جرّاء حالات الهلع والرعب، والخوف الدائم من حرب في الشمال وردود إيرانيّة وحرب إقليميّة،

مع الإشارة بشكل خاصّ إلى معطيات مقلقة سببها أمران وهما: الحرب وما تسبّبه من تدهور اقتصاديّ وهروب إلى عوالم الخيال، وهي ظاهرة الإدمان على المراهنات وحتّى الكحول والمخدّرات، ما يؤكّد أن إسرائيل تعيش حالة يمكن تعريفها وفق مصطلحات عوالم الصحّة النفسيّة بأنّها التأرجح السريع بين النشوة والإحباط، بين الروتين والرتابة وحالات الطوارئ، وبين الأمل واليأس.
 

 

فوق كلّ ذلك لا بدّ من السؤال اليوم: هل سيتغيّر الحال إذا انتهت الحرب وتحديدًا على الصعيد السياسيّ؟ فإسرائيل لا تملك ومنذ سنوات طويلة، سياسة واضحة تجاه "حماس" أو "حزب الله" أو الفلسطينيّين وإيران وكذلك الولايات المتّحدة، والحكومة الحاليّة في إسرائيل خير مثال، فهي لم تأتِ بجديد يذكر، سواء إيجابيًّا كان أم سلبيًّا، وبالتالي فالمستقبل البعيد منه والقريب على حدّ سواء، لا يبشّر بالخير في هذا الشأن بل إنّه يجب أن يثير القلق في إسرائيل خاصّة والمنطقة عامّة، وخاصّة مع تعزز سلطة وتأثير السياسيّين من اليمين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وشعبيّة الأوّل، وهما سياسيّان يمكنني الجزم أنّهما يملكان من التصميم والعزيمة والتخطيط المستقبليّ أكثر ممّا يتصوّره كثيرون، فهما يملكان، كلّ بطريقته، خطّة وخريطة طريق لتحقيق أهدافهما، فبن غفير يريد السيطرة على الشرطة وسموتريتش يريد المال والسيطرة على الضفّة الغربيّة وقضيّة الاستيطان، وهي خطط كانت غير قابلة للتحقيق سابقًا، لكنّها دخلت عالم الممكن والقابل للتنفيذ بعد أن قبل بهما نتنياهو شريكين في حكومته وأصحاب كلمة الفصل أحيانًا وبيضة القبّان في ائتلافه ومن يملك مفتاح بقاء الائتلاف أو انهياره، وبالتالي فإنّ الشرعيّة التي منحهما إيّاها نتنياهو وضعف أخلاقيّات السياسيّين وإيمانهم وخاصّة أولئك من الليكود، أنّه يمكنهم السيطرة على  سموتريتش وبن غفير ولجمهما،

هي سبب صعود وسطوع نجمهما كما جاء في كتاب المؤرّخ البريطانيّ إيان كارشو بعنوان "الشخصيّة والسلطة" والذي وصف صعود موسوليني في إيطاليا ومواقفه المتطرّفة قائلًا: "ضعف الصفوة اليمينيّة وليس قوّة شخصيّة موسوليني ومواهبه وقدراته السياسيّة، هي التي شكّلت السبب والعامل الأوّل لصعوده واعتلائه سدّة الحكم. دون دعم الحكومة لما كان الفاشيّون يملكون القوّة الكافية. هذه كانت أسس تبلور وبناء الصفقة السياسيّة التي سمحت لموسوليني بالسيطرة على مقاليد السلطة، إضافة إلى وزراء آمنوا أنّه يمكنهم لجمه والسيطرة عليه، وهذا كان الخطأ".  
 

 

خلاصة القول: يومًا ما سيتوقّف قصف المدافع وستظهر بعد ذلك المعالم الحقيقيّة للحياة وتبدو على السطح دون رتوش، وعلى جميع الجبهات، تأثيرات الحرب، فالعسكريّة منها والسياسيّة ستزول بسرعة وهي التي تتعلّق بالقيادات، أمّا تلك المتعلّقة بعامّة الشعب كالخوف والقلق والذعر وتدهور الصحّة النفسيّة والحالة الاقتصاديّة، وتغلغل المواقف المتطرّفة والأفكار الفاشيّة ومشاعر الكراهية لكلّ ما هو مختلف،

والاستخفاف بحياة الخصم حتّى لو لم يكن عدوًّا، والرغبة في الهجرة كما تؤكّد المعطيات الواردة من غزّة خاصّة وكذلك إسرائيليًّا، والحاجة إلى علاجات نفسيّة وإصلاح ذات البين داخليًّا واستعادة الثقة بسلطات القانون واحترام الرأي المختلف وعدم تخوينه واقصائه، فهي ماثلة لسنوات طويلة وربّما إلى الأبد،

فماذا سيكون عليه الحال على صعيد العامّة بعد انتهاء القصف؟ وهل سيتغيّر الخطاب السياسيّ وتتغيّر التوجّهات فلسطينيًّا وإسرائيليًّا أم أنّنا سنواصل سماع نماذج عصريّة وجديدة من الخطاب الذي ألقاه ونستون تشرتشل في 13 أيّار 1940 أمام مجلس العموم البريطانيّ كرئيس وزراء جديد لبريطانيا وقال فيه: "ليس لديّ ما أقدّمه سوى الدم والدموع والعرق".

 

أم سندخل عهدًا جديدًا تصبح الحروب فيه العمل الشاذّ أو الخارج عن القاعدة، الذي يرفضه الجميع ولا يبحث أحد عن مبرّرات لتسويغه وإضفاء الشرعيّة الأخلاقيّة عليه، ومحاولة إظهاره على أنّه التجلّي الواضح للعدل والعدالة والسعي إلى إحقاق الحقوق، ما يستوجب التذكير بما قاله القدّيس أوغسطين الكاتب والفيلسوف اليونانيّ، من أنّ الحرب العادلة هي التي تكون ثأرًا من ظلم أو لاستعادة شيء جرى الاستيلاء عليه. وعلى الرغم من كلّ هذا، فالحرب تبقى شرًّا في ذاتها، ويجب العمل على تجنّبها، وقوله إضافة وتلخيصًا لما سبق: "على الحكيم أن يرثي لحقيقة أن يكون مضطرًّا لشنّ حرب"، فأين منّا اليوم ذلك الحكيم.

 

תגובות

מומלצים