لا انتصار لقائد يكسب الأرض ويخسر الشعب

متيّقنًا من أن التاريخ لا يمكن أن يتكرّر، رغم القول الشهير لكارل ماركس حول كون التاريخ يعيد نفسه مرّتين الأولى كمأساة والثانية كمهزلة، ومن أن عجلة التاريخ لا يمكن أن تدور إلى الوراء باعتبار الأحداث التاريخيّة خطّ متواصل لا ينقطع

17.08.2024 מאת: المحامي زكي كمال
لا انتصار لقائد يكسب الأرض ويخسر الشعب

 

ومن أن الأمر الثابت، أو المؤكّد الوحيد في مسيرة التاريخ هو الإنسان، وتحديدًا العامل الإنسانيّ ممثّلًا بالقيادات السياسيّة والعسكريّة والدينيّة والاجتماعيّة، ومنطلقاتها وأطماعها ومصالحها الشخصيّة والضيقة، وسلوكها وتصرّفاتها، وهي واحدة لم تتغيّر  منها الشخصيّة وفي مقدّمتها البقاء في السلطة، وإحكام السيطرة على الحزب، أو الجماعة وإخضاع الخصوم من الداخل ،

ومنها العامّة، يجب أن تكون في المكان الأوّل من حيث الاهتمام والتعامل معها بنقاء وشفافية وإيثار، وهي الحفاظ على سلامة البلاد والعباد، وحماية الدولة عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا،  والدفاع عن أمنها واستقلالها واستقرارها. وهي منطلقات وحاجات، بل احتياجات لم تتغيّر ولم تتبدّل ويبدو أنها لن تتبدّل على الصعيد المحليّ، 

أو الإقليميّ أو العالميّ، بمعنى أنها بقيت نفسها، أما ما تغيّر فهو الأدوات والوسائل اللازمة لتحقيق هذه الأمور، ورغم ذلك فإن تغيير ترتيبها وأهميّتها وتغليب الشخصيّة والخاصّة على العامّة، بمعنى الاهتمام أوّلًا بالدائرة الضيّقة والاكتفاء بالبقاء في السلطة والحفاظ على الحكومة وموقع القيادة ومنع الخصوم السياسيّين من وصوله،

أو حتى المشاركة فيه، حتى لو اقتضت المصلحة العامّة ذلك خاصّة في فترات الحرب، واحتاجت الدولة ذلك لضمان استقرارها وسلامتها وتحسين حالة مواطنيها وضمان وحدتهم ووحدة مصيرهم، ومعها أمنهم ورفاهيتهم النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، بدل الاهتمام بالمصلحة العامّة أولًا وتناسي العداوات والخصومات الضيّقة والداخليّة واعتبار البلاد ومصلحتها وسلامتها أهمّ من الزعيم، ومحاولة إطفاء الحرائق، وإزالة المخاطر عنها بدلًا من مواصلة العزف، وعذرًا من نيرون الذي واصل عزفه على قيثارته بينما احترقت روما،

على وتر الشخصانيّة والحزبيّة والفئويّة والتفرقة والتحريض، وهي حالة تتكرّر اليوم في منطقتنا قوامها ما تشهده أربعة مواقع  هي طهران وغزة وجنوب لبنان وكذلك إسرائيل، يصر الزعيم فيها على مواصلة العزف على قيثارة السيادة والتجاهل وتغليب الخاصّ والضيّق على العام والواسع والشامل،

في أفضل تأكيد على الفارق الشاسع بين القياديّ الذي يفضّل مصلحة بلاده العامّة ويعمل على صيانتها وتحقيقها وتعزيزها، حتى لو استوجب ذلك وتطلب تنازلات شخصيّة وضيّقة، وبين السياسيّ العاديّ الذي يبدو عالمه صغيرًا بدايته ضرورة الحفاظ على السلطة ونهايته اعتبار الدولة الملك الخاصّ للزعيم عملًا بقول لويس الرابع عشر "أنا الدولة والدولة أنا".

 

 

ما سبق قوله، يؤكّد إيماني المطلق أن التاريخ يجب أن يكون لنا بأحداثه وتعرّجاته وتجلّياته عبرة ودرسًا، وأن تشابه أحداثه يجب أن ينير لدينا الضوء الأحمر أحيانًا منذرًا  بخطر يمكن تفاديه، أو يجب إلزام القيادات بتفاديه خاصّة إذا أبدت تجاهلًا للمصلحة العامّة وهي أغلبيّة القيادات في العالم عامّة ومنطقتنا خاصّة، أو  الضوء الأخضر الذي يؤكّد أنها قيادات حقيقيّة، وأنها تمارس الدبلوماسيّة وليس السياسة بمعناها الضيّق وأحيانًا الهشّ،

وهو ما يبدو أن التاريخ يريدنا أن نتذكره من حيث التزامن بين يومنا هذا وبين الذكرى الثالثة والثمانين لتوقيع ميثاق الأطلسيّ، وهو اتفاق كانت بريطانيا والولايات المتحدة وقعتاه في الرابع عشر من أوغسطس آب عام  1941،

خلال الحرب العالميّة الثانية، بعد أن عقد وينستون تشرتشل  رئيس وزراء بريطانيا، وفرانكلين روزفلت الرئيس الأميركيّ،  اجتماعات على متن سفينة حربيّة، كان أوّلها في التاسع من شهر آب أغسطس 1941، في مياه خليج بلاسينتيا، بجزيرة نيوفاوندلاند، الواقعة على الساحل الشرقيّ لكندا.

 

 

وهو اتّفاق كان بداية لتشكيل النظام العالميّ الجديد، خاصّة بعد الحرب العالميّة الثانية، وإنشاء منظمة الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسيّ، وجاء في ظروف كانت فيها بريطانيا بحاجة ماسّة لأمريكا كي تقف إلى جانبها في الحرب ضد ألمانيا حيث كانت في موقف عسكريّ ضعيف هدّدها الاحتلال الألمانيّ،

رغم أن الجيش البريطانيّ كان قد نجح في معركة "دانكيرك" بوقف زحف القوات الألمانيّة نحو الجزر البريطانيّة، وإنقاذ مئات آلاف من جنوده من الموت أو الأسر.

 

فقرّر تشرتشل الذهاب إلى أمريكا طالبًا العون من الرئيس روزفلت، لكنّ روزفلت لم يوافق دون ثمن، بل وضع شروطًا لذلك من بينها أن ترسل بريطانيا أسطولها إلى سواحل أمريكا وتسلّمها القيادة العسكريّة، وهو ما حصل حين سلمت بريطانيا القيادة إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي دخلت الحرب بعد ذلك بأربعة أشهر،

بمعنى أن تشرتشل وافق على التنازل عن جزء من سيطرته وصلاحيّاته كرئيس للوزراء وقائد أعلى للجيش البريطانيّ، من أجل إنقاذ بلاده ومنع ألمانيا النازية من احتلالها، وقبل بالمساعدة الأميركيّة، رغم أنها تشكّل مسًّا به، أو انتقاصًا من صلاحيّاته وسلطانه والمخاطرة بسمعته السياسيّة الشخصيّة أمام المتطرّفين والمتزمّتين الذين يمارسون الشعارات والغوغائيّة،

دون حساب للمدى البعيد، وربما كانوا سيفضّلون أن تواصل بريطانيا حربها ضد ألمانيا وحدها غير آبهين للنتائج التي ربما قد تؤدّي إلى انهيارها وفقدان استقلالها ومصرع مئات الآلاف من جنودها ومواطنيها، لولا تغليب تشرتشل المصلحة العامّة بنظرة بعيدة المدى على الشعارات الغوغائيّة، حول استقلاليّة القرار  والصمود والتحديّ أمام قوّة عسكريّة، من الواضح أنها أقوى وأشد بأسًا والنتيجة واضحة.

 

 

لم تكن هذه الخطوة أوّل خطوات تشرتشل، وهو الذي يُكثر مؤيّدو رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تأكيد أوجه الشبه بينهما، القياديّة، بل سبقتها خطوة جاءت في اليوم التالي لانتخابه رئيسً للوزراء في أيار 1941 حيث توجه فور انتخابها إلى خصمه الأزليّ كلمنت أتلي، وعرض عليه الانضمام إلى مجلس وزراء مصغّر، أو مجلس الحرب، ومنح حزب أتلي، حزب العمال البريطانيّ، اثنين من المقاعد الخمسة في المجلس الذي أدار شؤون بريطانيا خلال الحرب، وبالتالي أصبح أتلي نائب رئيس وزراء المملكة المتحدة، تحت رئاسة ونستون تشرشل ، وتزعم  بعدها حزب العمال  وقاده إلى الفوز  الساحق في انتخابات 1945 والفوز بفارق ضئيل في انتخابات 1950.

 

وهي خطوة تردّد نتنياهو في فعلها حيث لم يمنح المعارضة مكانة مساوية في الائتلاف الحكوميّ والحكومة، ولم يشركها بشكل فعّال في القيادة بعيدًا عن التطرّف والغوغائيّة،  دون الانقياد وراء شعارات لا تجدي حول الكرامة وضرورة الصمود وعدم التنازل، بل بالعكس فنتنياهو بخلاف تشرتشل يمكِّن إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من المسّ بحلفه وعلاقات بلاده الاستراتيجيّة مع الولايات المتّحدة،

ولا يطرح أيّ أفق سياسي كان، ويرفض إقامة علاقات سلام مع حلفاء جدد منهم المملكة العربيّة السعوديّة، كما يمكِّن المتطرّفين من العمل نحو ضمان انهيار السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ومنع إقامة دولة فلسطينيّة، بل يقامر بكافّة ما يملك عبر المراهنة على ترامب رئيسًا قادمًا للولايات المتحدة، ويعمل كما يؤكّد كثيرون على تأخير، أو إعاقة او إفشال صفقة التبادل، ووقف اطلاق النار مع "حماس" في غزة، وربما تجنيب إسرائيل الحرب في الشمال، أو ربما حربًا إقليميّة واسعة النطاق تشارك فيها إيران والحوثيّون وحزب الله ومليشيات مسلّحة في العراق وسوريا وغيرها،

وكلّها أمور لا تعكس ولا تخدم المصلحة العامّة للدولة ولا تخدم مواطنيها ولا تضمن عودة حياتهم إلى روتينها ومجراها، أو تحسين أوضاعهم النفسيّة التي نهش التوتّر والقلق عظامها، ولا تحسِّن من حالهم الماليّ والاقتصاديّ، بل إنها كلّها أمور تعني تغليب مصلحة ضيّقة حزبيّة وشخصيّة وسياسيّة قوامها وملخّصها بقاء الحكومة والائتلاف وبقائه رئيسًا للحكومة، وتجنّب المحاكمة وغير ذلك من المنافع الشخصيّة، حتى لو كان ثمن استمرار الحرب معاناة لكافّة المواطنين بمن فيهم مؤيّدوه وخطرًا على الجنود والقرى والبلدات في الشمال والجنوب، وسحقًا لطبقات لم تكن حتى اليوم في منطقة الفقر والعوز، لكنّها أصبحت كذلك.

 

 

وفي هذا الحال، نتنياهو ليس وحيدًا، فيحيى السنوار هو الآخر في نفس البوتقة تحرّكه المصالح الخاصّة والشخصيّة خاصّة اليوم ، وهو الحاكم الوحيد، والآمر الناهي الذي لا رأي غير رأيه في "حماس" فهو رئيس المكتب السياسيّ والجناح العسكريّ ويتصرّف كأنّه يمسك المجد من طرفيه، ويعلن منع مشاركة وفد الحركة في المفاوضات الهادفة إلى عقد صفقة للتبادل تشمل وقفًا لإطلاق النار وإطلاقًا لسراح مئات من السجناء الفلسطينيّين منهم بعض ذوي الأحكام العالية، وهي فوق كل ذلك صفقة تجنّب المدنيين الغزّيين من الويلات،

وتمنحهم بعض الراحة والاستقرار، بعد أن تقطعت بهم السبل ونزحوا من شمال القطاع إلى جنوبه فشماله فجنوبه ومن ثم إلى رفح، يعانون الخوف والفقر والجوع وانعدام أبسط مقوّمات الحياة كالماء والغذاء والدواء، ناهيك عن تهدم نحو ثمانين بالمئة من منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومؤسساتهم الجماهيرية والعامّة، وهم يؤكّدون رغبتهم في وقف الحرب التي أوقعت 40 ألف ضحية وعشرات آلاف الجرحى والمشرّدين،

لكنّه بدلًا من التخلّي عن شعارات تتكرّر عربيًّا وفلسطينيًّا حول الصمود، صمود أولئك الذين لا حول لهم ولا قوّة والمسحوقين تحت عجلات آلة الحرب، والسعي إلى وقف  دائم لإطلاق النار، أو حتى وقف مؤقت لإطلاق النار قد يتحوّل إلى دائم، وبدل العمل على إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من السجناء الفلسطينيّين يواصل التأخير ما يعني خسارة أوراق ضغط هي الرهائن الإسرائيليّين وخاصّة الرهائن الأحياء منهم، رغم ما يعنيه ذلك من استمرار للويلات والموت والدمار، وذلك انطلاقًا من إيمان أصوليّ بصدق الطريق وضرورة الجهاد، حتى لو تحوّل مواطنو غزة وفق ميثاق "حماس" إلى وسيلة يمر التحرير فوقها، أو وقود لتحقيق الميثاق الحمساويّ الذي يعتبر فلسطين كلّها وقف إسلامي يجب تحريره اليوم أو حتى أمس.

 

 

 وفي لبنان مثال آخر، فزعيم "حزب الله" حسن نصر الله، يصرّ على ما يسميه معركة الإسناد لغزة. وهي اسم ناعم وبرّاق لعمليات عسكريّة لا تخدم غزة في شيء، بل إنها تنفيذ واضح لسياسات خارجيّة تُرسم خطوطها في طهران، وتنفّذ معالمها على أرض جنوب لبنان، يدفع اللبنانيون من الجنوب مرورًا بصيدا وحتى بيروت ثمنها عبر مئات القتلى ودمار هائل للبنى التحتيّة، وكذلك يدفع السوريّون مقابلها عبر هجمات متوالية إسرائيليّة على أهداف في سوريا معظمها مرتبط بطهران وإيران، تشكّل في مجملها جزءًا من نظريّة ولاية الفقيه ونشر الثورة  الشيعيّة الخمينيّة الإيرانيّة،

وتصبّ في مصلحة أجندة تلتقي مع حركة "حماس" السنيّة ابنة حركة " الإخوان المسلمين" حول نظريّة وجوب هزيمة إسرائيل، واعتبارها مسألة وقت ليس إلا، وتعتبر المشاركة فيها واجب على كلّ مسلم، وخطوة أو موقفًا لا تنازل فيه ولا حلول وسط، وبالتالي فهو يستحق أن يتحمّل المدنيّون من أجله الويلات والقتل والدمار ما دامت النهاية كما يريدها القياديّ،

أو من يقف خلفه، تخدم أجندات ضيّقة وحركيّة وفئويّة، لا علاقة للمواطنين بها، وهي في حالة لبنان أشدّ خطورة، فهي النقيض التامّ لما تريده الحكومة الشرعيّة، حتى لو كانت انتقاليّة، أو حكومة تسيير أعمال وفق المصطلح اللبنانيّ وحتى لو كانت نتائج المواجهة العسكريّة الحاليّة لا تمتّ للبنان بصلة، بل ستعود عليه بالدمار والخراب، وستعيده عقودًا إلى الوراء وستحكم على مواطنيه بالويل والثبور وعظائم الأمور، وستضطر حكومتهم إلى بسط يدها وتوسّل المساعدات من دول العالم، لتصبّ في مرحلة الإعمار حتى تدور الدائرة وتنشب الحرب مرّة أخرى، والنتيجة فقر وارتباط بإيران وتعميق لنفوذ طهران، وتمزيق للحمة لبنان ونسيجه الداخليّ الذي مزّقته الخلافات المذهبيّة والحرب الأهليّة والتوزيعة الطائفيّة للسلطة، وقيادات تغلّب مصلحتها الشخصيّة والفرديّة والفئويّة على مصلحة العامّة، وبالتالي هي زعامات وليست قيادات.

 

 

وإذا كان هذا حال أهل البيت في حزب الله وحماس، وفق بيت الشعر المعروف" إذا كان ربّ البيت بالدف ضاربًا" ، فحال ربّ البيت لا يختلف كثيرًا، فإصرار طهران على امتلاك سلاح نوويّ رغم العقوبات الاقتصاديّة العالميّة وتدهور الأوضاع المعيشيّة وانخفاض سعر العملة، وعزلة إيران الدولية وهروب الأدمغة منها، وانهيار نظامها المعيشيّ والأكاديميّ، وتسخير معظم ميزانياتها ومقدراتها لأغراض امتلاك وتصنيع أسلحة تدعم بها مليشيات تدور في فلكها في الشرق الأوسط ،

مع تواصل الاختراقات لأمنها الداخليّ وآخرها اغتيال إسماعيل هنية على أراضيها وبعد ساعات من مشاركته ي مراسم تنصيب رئيسها الجديد، وبالتالي تواصل الزعامة الإيرانيّة الحديث عن إبادة دولة أخرى، وتواصل التدخّل في سيادة دول المنطقة، وتهديد أمن دول الجوار الخليجيّة، بينما يدفع مواطنوها ثمن ذلك اقتصاديًّا ومعيشيًّا وتعليميًّا، وتتقلّص حرّياتهم خاصّة النساء منهم، فولاية الفقيه وتعزيز نظام "آية الله" بمفاهيمه المتزمّتة واجنداته التي تعتمد السيطرة والتوسّع رسالة أساسيّة، هي الأهم ، ومن هنا تتواصل تهديداتها أيضًا لإسرائيل ومخطّطاتها لمهاجمتها ردًّا على اغتيال إسماعيل هنية مؤخّرًا وقبله قادة في الحرس الثوريّ وفيلق القدس وغيره، ومن هنا تموضع مواطنوها في المكان الثاني، أما مصالح زعامتها  العقائديّة والسياسيّة والماليّة والتوسعيّة والدينيّة ففي المكان الأوّل دون منافس.

 

 

وعودة إلى إسرائيل، وبينما تتواصل مطالبة اليمين المتطرّف المتديّن ممثّلًا بأحزابه في الحكومة الحاليّة. وهي أحزاب تدَّعي أنها استمرار لأحزاب الصهيونيّة الدينيّة، بضمّ كامل للضفة الغربيّة وعودة تامّة إلى الاستيطان في  قطاع غزة، وحرب متواصلة هناك، ورفض لأيّ صفقة لاستعادة الرهائن الإسرائيليّين الذين تتزامن كتابة هذه الكلمات مع أنباء حول مقتل بعضهم جراء غارات إسرائيليّة على أهداف فلسطينيّة في قطاع غزة،

إضافة إلى دعوتهم إلى حرب في لبنان واغتيال للأمين العام  لحركة "حزب الله" حسن نصر الله،  وتدمير لبنان وحرب مع إيران، وصدام مع الولايات المتحدة وتغيير للوضع القائم في المسجد الأقصى ومعناه صدام مع المملكة الأردنيّة الهاشميّة صاحبة الرعاية الهاشميّة في الحرم القدسيّ، واحتلال  صلاح الدين أو محور فيلادلفيا بمسمّاه الإسرائيلي ما يعني خرقًا واضحًا لاتّفاقيات سلام مع مصر، تمّ توقيعها برعاية أميركيّة تنصّ على أن تبقى القوّات الإسرائيليّة على بعد كيلومترات منه،

وأن يكون تحت سلطة مصريّة خالصة، وكلّها أمور تدعو هذه الأحزاب لفعلها دون أيّ تأييد  دوليّ، بل رغم المعارضة الدوليّة التامّة والشاملة والواضحة والمعلنة، وفي أفضل تجسيد للفارق بين زعامات سياسيّة همّها الوحيد حقيقةً هم مصالحها الضيّقة، حتى لو انقلبت الدنيا بعدها رأسًا على عقب، وبين قيادات  حقيقيّة تُدرك أن إسرائيل كغيرها من الدول وربما أكثر من غيرها، لا يمكنها أن تعيش على حدّ السيف دائمًا،

ولا أن تكون بمعزل عن العالم وقراراته خاصّة قرارات الولايات المتحدة، وأنه لا يمكن لأيّ دولة أن تعلن التمرّد التامّ على المواقف الدوليّة وبضمنها مواقف حليفتها الأولى أميركا وحلفائها في أوروبا وغيرها، لا بدّ من التذكير مقابل مواقف زعامات اليوم، بموقف قيادات أحزاب الصهيونيّة الدينيّة قبيل حرب الأيام الستة عام 1967، وخاصّة موقف الوزير موشيه حاييم شابيرا ، والذي طالب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيليّ حينها ، إسحق رابين بعدم خوض الحرب،

قائلًا:" كيف تجرؤ على خوض حرب الآن والظروف كلّها ليست في صالحنا؟ لن تؤيّدنا أيّ دولة عظمى، وحتى الولايات المتّحدة لا تؤيدنا في ذلك. لم نحصل على إمدادات عسكريّة كافية في حال احتجنا إليها أثناء الحرب. كيف يمكننا خوض حرب على أكثر من جبهة واحدة، وربما على جبهتين أو ثلاث؟"،في تعبير عن موقف قياديّ همّه الأوّل أمن الدولة ومواطنوها وضمان تفوّقها في الحرب وعدم المراهنة، أو المخاطرة وعدم التلويح باستخدام القوّة والدعوة إلى ذلك، إلا بدعم دوليّ،

أو أميركيّ على الأقلّ، وليس بتعهّد أميركيّ بالدفاع عن إسرائيل،  وعلاقاتها مع حلفائها وأوّلهم أميركا وبعدها دول العالم الأخرى، وهي اقوال جاءت قبل الحرب التي انتهت خلال ستة أيام باحتلال الضفة الغربيّة والجولان وسيناء، وهي حرب اعتقدوا في إسرائيل بعدها أنها وبسبب نتائجها التي شملت احتلال أراضٍ عربيّة ستمنع الدول العربيّة من حرب قادمة،  وهو اعتقاد سرعان ما اتّضح زيفه بعد أن عادت مصر إلى حرب استنزاف عام 1967 وإلى حرب أكتوبر عام 1973، ما يؤكّد أن احتلال الأراضي لا يمنع الحروب،

بل ربما يؤجلّها إلى أمد قصير للغاية، وهي عبرة لم يتعلّمها زعماء، وليس قادة، اليمين الإسرائيليّ كلّه، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي يرفض الاعتراف أن محاولاته، إن كانت هناك أصلًا محاولات حقيقيّة، وليست مجرد تصريحات بالإنجليزيّة أمام الكونغرس الأميركيّ مرّتين ، لمنع ايران من امتلاك أسلحة نوويّة، قد فشلت وأن خطوات كان هو من دفع إليها وأولها إقناع الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب  عام 2018 بالانسحاب من الاتّفاق النوويّ الموقّع عام 2015،هي ما أوصل ايران إلى دولة تقف على عتبة صناعة قنبلة نوويّة، أصبح السؤال حولها مسألة وقت ليس إلا.

 

 

ختامًا: هكذا هم السياسيّون والزعماء، بخلاف القادة، يماطلون ويؤجّلون ويمتنعون عن اتّخاذ قرارات شجاعة تصبّ في مصلحة بلادهم كلّها وليس مصلحتهم هم، ويفضّلون إدارة الأزمات بدل حلّها، بل تركها ميراثًا لمن سيأتي بعدهم، أو للأجيال القادمة، وذلك انطلاقا من كون ذلك حالة مريحةً، أو تحافظ على السلطة والحكومة والائتلاف، بمعنى بناء سلّم أفضليات شخصيّ ضيّق، أما القادة فيتّخذون القرارات الصعبة والشجاعة وفق رؤيتهم لمصالح بلادهم ،

وهذا هو ما سيكون على المحك خلال الفترة القريبة، فالقيادة الإسرائيليّة ملزمة باتّخاذ قرارات حول ما إذا كانت تريد وقفًا للحرب في غزة أم استمرارها. وهذا يخدم أجنداتها وشعارات النصر المُطلق التي ترفعها، وسط ضبابيّة في الأهداف باعتراف القيادات العسكريّة، وبالنسبة لحزب الله وإيران هل تريد حربًا شاملة لا يعرف أحد نتائجها، أم "صدام محدود" تتمّ بعده العودة إلى حرب استنزاف، وهو الأمر بالنسبة لقيادات "حماس" في غزة فهل تريد استمرار الدمار  والحرب، دون اكتراث لعشرات آلاف الضحايا والقتلى، ولهدم تامّ للبنى التحتيّة، وهذا يخدم أجنداتها الضيّقة،

أم ستفضّل ما يخدم مصلحة كافّة مواطنيها وهو الهدوء ووقف الحرب، وهو الحال بالنسبة لحركة "حزب الله" وهي تدرك جيّدًا أن لبنان كلّه بما فيه الجنوب يريد الهدوء والسلام، وعلى شاكلة ذلك زعماء طهران،  وبالتالي هل ستكون الغلبة  الزعامات  السياسية الغوغائيّة وربما المتهوّرة بمصالحها وأجنداتها الضيقة، التي تفهم الحكم على أنه قضيّة فرديّة وتستجيب للمارد الحزبيّ والفئويّ ، وليس للقيادات صاحبة الأجندات المسؤولة والواعية غير المتسرّعة، والتي تجيد  التخطيط وخلق التوازن بين كافّة المتغيّرات، ومعرفة الممكن والمتاح وتحديد الأهداف والمسارات  بحكمة ورويّة. فهل سيحاول كلّ من الأطراف الأربعة سابقة الذكر ، إسرائيل و"حزب الله" و"حماس" وطهران، كسب الأرض أيّ تحقيق أهداف تخدمهم وربما توسع مدى تأثير الجهات التي يتزعّمونها، حتى لو أدخل ذلك هذه الجهات وشعبها في حرب طاحنة أدّت إلى خسائر بشريّة واقتصاديّة وإنسانيّة كبيرة، في أفضل تكريس للقول الشهير لأدولف هتلر: " القائد الذي يخسر الأرض ولا يخسر الشعب، يستطيع أن ينهض وينتصر،

أمّا القائد الذي يكسب الأرض ويخسر الشعب، فلا يمكن أن ينتصر أبدًا". وهذا القائد النازيّ أدّى بواسطة التوسّع والحروب الطاحنة إلى قتل عشرات الملايين من البشر ودمار بلاده ودول عديدة، لأنه لم يأخذ من أقواله العبر وعليه السؤال "هل تملك الزعامات الشجاعة القياديّة، لتبلّغ شعوبها ماذا سيكون المستقبل، أو أيّ مستقبل تريد لها عملًا بقول جورج باتون القائد البارز في الجيش الأميركيّ خلال الحرب العالميّة الثانية،: "القائد يجب أن يوضّح ملامح المستقبل، لمن يعملون معه".

الأيّام كفيلة بالردّ، لكن معالمه ولمزيد الأسف واضحة، فزمن القيادات الحقيقيّة ولّى، لأن التقدّم مستحيل بدون التغيير، وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير عقولهم لا يستطيعون تغيير أيّ شيء".

 

תגובות

מומלצים