سوريا خيارات قاتمة حلوُها مرٌّ كالعلقم
وسط هدير الطائرات الإسرائيليّة التي تحلّق في سماء سوريا بمنتهى الحريّة والأريحيّة، وتقصف المواقع العسكريّة البريّة والجويّة والبحريّة ومخازن الأسلحة، وضجيج الدبابات التي اجتاحت كيلومترات من الأراضي السوريّة، ووسط نشر القوات الإسرائيليّة هناك مؤقّتًا أو إلى الأبد.
وبعد أن اتضح أن الفرحة العارمة، أو مواكب واحتفالات الفرحة الظاهريّة، وربما المفهومة جزئيًّا بعبارة أدقّ، بسقوط نظام الأسد، وكما اعتدنا في الشرق ولمزيد الأسف، حالت دون الاهتمام السريع والفوريّ، بل الضروريّ والوجوديّ بضمان مقوّمات الدولة العسكريّة والأمنيّة ووحدة جيشها، وإن لم يكن ذلك ممكنًا، فوحدة وبقاء وسلامة أسلحته ومعدّاته، التي تشكّل السياج والحماية الأمنيّة للسوريين كلّهم دون استثناء،
ودونها لا أمن ولا أمان لهم، ولا قدسيّة لأراضيهم وحدودهم ووحدة بلادهم الإقليميّة، غاب عن ذهن السوريّين شعبًا وقيادة ، تلك الجملة المشهورة التي تتردّد في كثير من نتاجات السينما الأمريكيّة والغربيّة :
" وراء كل اهتمام مفاجئ مصلحة، لا تقع في الفخّ يا صديقي" كما غاب عن ذهنهم، أن قواعد عالم السياسة تؤكّد أن المبادئ السياسيّة والمصالح السياسيّة مترابطة، ولا يمكن الفصل بينها، وأنها إذا تغيرّت أصلًا، فإنها تتغيّر بحسب الزمان والمكان، انطلاقًا من أن المبادئ هي مجموعة الأهداف والقواعد والأسس التي تحدّد السياسات، وأن المصالح هي التي تحدّد هويّة الخطوات اللازمة لتحقيقها،
أي أنها هي التي تحدّد سبل ووسائل تطبيق العلاقات السياسيّة بين أيّ الدول، سواء كانت إيجابيّة أساسها متين يهدف إلى فتح وإيجاد المزيد من مجالات التعاون بين الدول، وتوطيد فرص السلام، أو سلبيّة كقطع العلاقات، أو وقف التمثيل الدبلوماسيّ(كما فعلت إسرائيل هذا الأسبوع عندما أغلقت سفارتها في إيرلندا بداعي عداء المواقف الإيرلنديّة) ، أو أعمال أخرى منها التجسّس،
أو التدخّل في الشؤون الداخليّة للدولة الأخرى، والهيمنة على مناطق منها، وبالتالي لم نلاحظ اهتمامًا كافيًا ومحاولات للوقوف على كنه" فيضان، أو تدفّق الحبّ العالميّ والدوليّ على سوريا، ومطالبات الأمم المتحدة برفع العقوبات الدوليّة عن نظامها، كما غاب عن الاهتمام أمور أخرى منها مواقف تركيا وتصريحات القيادة الإيرانيّة وغيرها،
وهي تصريحات يؤكّد بعضها أن علاقات بعض الدول مع سوريا كانت شهرعسل سينتهي، ليحلّ محلّه طلاق وشقاق، أو أنها علاقات نزاع سببه مصلحة ما ستتحوّل إلى علاقات قبول وصداقة لمصلحة ما، تغيرت المصالح فتغيّرت العلاقات، أو أنها تصريحات تؤكّد أن الدول التي أطلقتها ترى في ما حصل في سوريا إمكانيّة للاستفادة الماليّة، أو السياسيّة، أو الإقليميّة، أو العرقيّة والسكانيّة، فرحّبت بالحكم الجديد، وغفرت لمن يقف على رأسه زلّات الماضي، وقبلت به قائدًا لسوريا بحلّة جديدة ترفضها في بلادها هي.
الفائز الكبير، أو الاكبر وفق التقارير الرسميّة وغير الرسميّة من استخبارات وتصريحات سياسييّن، ستكون تركيا، فهي الدولة التي يمكن وصف علاقاتها بسوريا الحديثة تحت حكم الجولاني وحكومته، بأنها علاقات زواج انتهت، أو ستنتهي إلى طلاق شاءت تركيا أم أبت، وشاءت سوريا أو أبت ، وستكون خطوته الأولى ما يدور الحديث عنه في تركيا منذ أيام من ضرورة إعادة ، وليس حتمًا عودة بمحض الإرادة،
للاجئين السوريّين في مناطق تركيا المختلفة، والذين أثار وجودهم قلاقل وخلافات عديدة ومتكرّرة، لكنّها البداية التي لا تشير إلى التالي، أو إلى النهايات خاصّة وأن تركيا لم تخف، ربما باستثناء العقدين الأخيرين، أطماعها السياسيّة والجغرافيّة في سوريا. وهي أطماع ما زالت قائمة وماثلة في الذاكرة التركيّة، منذ اتفاقيّات سايكس بيكو، التي رسمت من جديد خريطة الشرق الأوسط، لتضمّ سوريا مناطق أرادتها تركيا لها، فتركيا التي لم تتنازل رغم ضعفها عن فكرها القوميّ التوسّعيّ وحلمها استعادة الإمبراطوريّة العثمانيّة تعلن في إعلامها أن بعض أجزاء سوريّة خاصّة تلك القريبة من الأراضي التركيّة ومنها،
حلب و الموصل و حماة وحمص هي جزء من الأراضي التركيّة، في تعبير واضح وصريح عن توجّه قوميّ تركيّ متطرّف لا يعترف بالحدود، أو بالاتفاقيّات والمواثيق الموقّعة، وبالتالي ليس من المستبعد أن تحاول تركيا ضمّ، أو السيطرة على بعض المناطق ، ما ينذر باحتمال مواجهة عسكريّة ستكون سوريا العارية من السلاح والدفاعات الجويّة الخاسرة فيها تمامًا إلا إذا قرّرت الموافقة على تسويات جغرافيّة، وهذا أهون الشرّين، فتركيا قد تلجأ إلى محاولات أو وسائل أخرى، إذا رفضت سوريا الجولاني مطالبها، فهي ستحاول دون شكّ دقّ إسفين الخلاف بين القوى السوريّة،
وهي متعدّدة بين "هيئة تحرير الشام" وحركة" داعش " التي ترعرع فيها الجولاني، وقوات سوريا الديمقراطيّة والفصائل التركيّة وغيرها من الفصائل الطائفيّة، في محاولة لخلق حرب أهليّة في سوريا، وهو سيناريو بدأت بوادره تظهر منذ اليوم، خاصّة بعد استفراد هيئة تحرير الشام وحدها دون غيرها بالقرار السياسيّ والعسكريّ في سوريا، وتحييد غيرها خاصّة من تلك الفصائل التي تنشط في شمال سوريا، بناء على أوامر تركيا، وإلى كل هذا يجب أن نضيف ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحة ، من أن أكثر ما تخشاه تركيا هو مرابطة "قوات سوريا الديمقراطيّة" على حدود تركيا الجنوبيّة، خاصّة وأن تركيا تعتبر هذه القوّات جزءًا، أو امتدادًا لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعًا مسلحًّا ضد تركيا من داخل سوريا، أو في تركيا نفسها عبر اعتداءات مسلّحة.
تغيُّر المصالح حسب الزمان والمكان، أو بتغيّر الزمان والمكان، كان باديًا على الوجوه في سوريا منذ اليوم الأول، رغم أن كثيرين من السوريّين وغير هم ، استقبلوا خبر سقوط نظام الأسد بالفرح والترحيب، باعتباره رفع لحجر الرحى عن ظهورهم وأعناقهم، لكن هناك من اختلطت لديهم مشاعر الخوف والفرح والترقّب وربما الخشية، من مصالح قد تتغيّر ومعها تحالفات قد تتبدّل، خاصّة على الساحة الداخليّة، بوادرها واضحة، وأولها اتهام "داعش" لابنها محمد أبو محمد الجولاني بالانحياز عن طريقها الجهاديّ المتشدّد، والميل نحو الاعتدال وهو ما قد ينذر بمواجهة بين الطرفين، فالخلافات بين الحركات المسلّحة الدينيّة أخطر بكثير من غيرها،
هذا إضافة إلى المخاوف التي ما زالت في سوريا، ولم يبدّدها البيان الصادر عن الجولاني والذي يمنع فيه أيّ تدخّل في الحريّات الشخصيّة خاصّة للسيدات، وأي محاولة لفرض زيّ معيّن عليهن. وهو ما خالفه هو عندما ألمح إلى فتاة سورية بتغطية شعرها قبيل التقاط صورة معه، كل هذا يضاف إلى مخاوف تتعلّق بالحياة اليوميّة ومصاعبها ، وتكفي هنا الإشارة إلى أن إعادة بناء سوريا يستوجب أكثر من 400 مليار دولار، لا تملك منها سوريا قرشًا واحدًا، ولذلك ستصبح مدينة بالولاء لمن يعطيها عملًا بالقول "كالأيتام على مائدة اللئام"،
وهي قضية يمكن للدول الخارجيّة أن تستغلّها للضغط على سوريا بهدف توجيه دفّتها إلى جهة ما، دون غيرها، بمعنى استغلال الأزمة الاقتصاديّة التي تضاعفت تقريبًا بعد انهيار النظام، دون أن تكون أحسن بكثير قبل ذلك وفق معطيات رسميّة اشارت إلى أن ثلتي المواطنين في سوريا احتاجوا قبل الأزمة إلى مساعدات إنسانيّة ، أي حوالي 17 مليون شخص يجب أن يضاف إليهم ملايين اللاجئين الذين تريد الدول الأوروبيّة منهم أن يغادروها، ومعهم اللاجئين في تركيا وربما مخيم الزعتري في المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وهو ما سيثقل كاهل الميزانيّة العامّة وخزينة الدولة الخاوية،
التي عمل بشار الأسد وأفراد عائلته على السيطرة على نحو 70% من الأموال والمصادر الاقتصاديّة فيه، حتى أن أموالهم وأرصدتهم تقدر بعشرات مليارات الدولارات وأكثر، وهو حالة قد تستغلّها دول خارجيّة، ربما بعضها عربيّة لبسط نفوذها على مناطق في سوريا والاستيلاء على ثرواتها الكبيرة ومناطقها السياحيّة، ولنا في حالة بيع أراضٍ وممتلكات ومناطق سياحيّة في مصر ، وبسبب الضائقة الاقتصاديّة، لمستثمرين خليجيّين دليل على ذلك، وفوق ذلك فالمستقبل بما يتعلّق بالأوضاع الأمنيّة والعلاقات بين الطوائف في سوريا تسوده حالة من الشكّ،
وخاصّة بعد عشر سنوات من الحرب الأهليّة التي أكلت الأخضر واليابس، وحوّلت الجيش السوريّ، وكما اتضح إلى شبح لا يرى، مقابل تعاظم قوة وسيطرة جماعات مسلّحة متعدّدة منها هيئة تحرير الشام التي استطاعت السيطرة كليًّا على محافظة إدلب، وتسيير أمورها والانطلاق منها إلى الإطاحة بنظام الأسد، وهي حالة تضاف إليها مخاوف من عمليّات انتقام من الأقليّة العلويّة التي لا تتجاوز 14% من مواطني سوريا، وتحميلهم وزر أعمال عائلة الأسد، أو غضّ النظر عن اعتداءات عليهم، وعلى طوائف وأقليّات أخرى، أو الاقتصاص من أكاديميّين وعلماء عملوا في الجامعات السوريّة،
وكانوا من المقربّين للوزارات الرسميّة، أو حتى لعائلة الأسد خاصّة بعد اغتيال وقتل ثلاثة محاضرين من كبار العلماء والباحثين في سوريا، وهم عالم الكيمياء العضويّة حمدي إسماعيل ندى، وعالمة الذرة زهرة الحمصي وعالمة الفيزياء شادية حبال مع زوجها . وهي ظاهرة تعيد إلى الأذهان تصفية عدد كبير من العلماء العراقيّين بعد سقوط نظام صدام حسين ، هذا إضافة إلى مخاوف من أن لا تتمكّن السلطة الجديدة من الحفاظ على وحدة التراب السوريّ، لتتحوّل سورية إلى أربع، أو خمس دويلات طائفيّة وعرقيّة ودينيّة.
تيار الحبّ المتدفّق نحو سوريا الجديدة من جهة الدول الأوروبيّة التي سارعت إلى الاعتراف بحكم الجولاني وهيئة تحرير الشام، تحرّكه المصالح، لكنها في هذا الموقع أوسع، وبالتالي أشدّ وقعًا وخطورة، فالدول الأوروبيّة ومعها الولايات المتحدة وأوكرانيا، ومن وراء الكواليس إسرائيل، لن تقبل بأقلّ من تصفية الوجود والتأثير السوريّ والإيرانيّ في سوريا، خلافًا لتوقّعات الخبراء والمحلّلين وتصريحات روسيا،
من أن موسكو لن تغادر قاعدتيها الرئيسيّتين في سوريا، بعد سقوط بشار الأسد، على الرغم من سحب روسيا جيشها من خطوط المواجهة في شمال سوريا، ومن مواقع في جبال العلوييّن على الساحل السوريّ، مع الإشارة إلى ما قالته علنًا مسؤولة السياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبيّ كايا كالاس هذا الاسبوع بعد اجتماع مع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبيّ، وأكّدت فيه حسب تعبيرها "إن التطرّف وروسيا وإيران يجب ألا يكون لهم مكان في مستقبل سوريا،
وإن القضاء على النفوذ الروسيّ في سوريا يجب أن يكون شرطًا على الإدارة الجديدة تنفيذه". وهو تأكيد لما قلته من أن وراء كل اهتمامٍ مفاجئ مصلحة، يمكن أن ينذر السعي إلى تحقيقها إلى تحويل سوريا إلى ساحة صدام بين هذه الدول حتى عبر وسطاء أو وكلاء، ما يعني " بلقنتها" وتفكيكها إلى كانتونات ودويلات، أو إبقاء سوريا ومصير اقتصادها وشعبها رهينة لخضوع إدارتها وقيادتها لإملاءات الغرب والبنك الدوليّ في تكرار لحالة مصر اليوم، كما انعكست حتى في موقفها من الحرب الدائرة في غزة،
أي أن سوريا ستصبح دولة تابعة اقتصاديًّا دون سلاح أو جيش، أو حكم ثابت ومستقرّ، وبوجود فصائل مسلّحة لن ترمي سلاحها، لأنها تخدم دولًا جارة قريبة، أو دولًا بعيدة، في انتقال من "البلقنة" إلى " اللبننة " أي نموذج آخر من لبنان، منهار اقتصاديًّا ومتفتّت أمنيًّا وعسكريًّا، قراره ليس بيده.
قراءة معمّقة لموقف إيران يجعلني أجزم أن سقوط نظام الأسد هو نتيجة مباشرة لهجمات السابع من أكتوبر عام 2023 والتي أدّت عقب دعم طهران التامّ لحركة "حماس"، واستضافة قادتها حتى تم اغتيال أحدهم في طهران وتحديدًا داخل مؤسّسة تابعة للنظام والرئاسة هناك، ونتيجة لما تلا ذلك من مواجهة بين إيران وإسرائيل يمكن تسميتها "حرب إيران وإسرائيل الأولى" والتي انتهت بهزيمة واضحة للعيان، حتى لو حاول البعض إخفاءها بغربال، للنظام الإيرانيّ بعد تدمير كافّة دفاعاته الجويّة وضرب منشآت صناعة الأسلحة فيه، إضافة إلى ضرب حلفاء إيران والعاملين بإيعاز منها وهم حركة" حزب الله" والحوثيّين ، وما حلّ بحركة "حماس"،
وما لحق بالقطاع من دمار، دون أن تحرّك إيران ساكنًا وبشكل حقيقيّ، سوى التصريحات الإعلاميّة لمساعدتهم في غزة، ومحاولة نجدتهم، وهم الذين قتل منهم حتى اليوم نحو 50 ألفًا، وبالتالي يمكن القول إن ايران وعبر تصريحات قادتها ، تخلت عن الأسد إذا اخترنا التعبير الدبلوماسيّ، وخانته إذا تخلّينا عن الدبلوماسيّة في الحديث، بل إنها لم تكتف بذلك فحسب، بل القت عليه اللوم وكأنه سقط، لأنه لم يستمع إلى تحذيراتها ونصائحها،
وهي حاليًّا وهذا واضح لا تذرف عليه الدمع ، فهو ودعم طهران له كانا وسيلة لتحقيق غايات واضحة، تبحث طهران اليوم عن شخصيّة أخرى تنفذها وتحقّقها، تمامًا كما تصرّفت مع الفلسطينيين في غزة والذين غرّرت بهم وأوهمتهم أنها ستقف إلى جانبهم وستضرب العمق الإسرائيليّ، وأن حركة "حزب الله" ستنضم إلى الحرب ضمن ما أسمته " وحدة الجبهات" ليتضح أن الأمر لا يتعدى الإسناد وليس القتال المباشر،
وأن إيران هاجمت إسرائيل مرّتين ليس دعمًا لحركة "حماس" والفلسطينيّين، بل حفاظًا على ماء الوجه بعد اغتيال إسماعيل هنية وقصف منشآت في إيران وصنعاء ومحاولة اغتيال سفير إيران في لبنان، ومن هنا فإن طهران تخلّت عن الأسد وأقرّت بهزيمتها المدوية في الشرق الأوسط على أربع جبهات هي غزة ولبنان وسوريا واليمن وحتى العراق، وأقرّت أيضًا بهزيمة التوجّه المتشدّد فيها الذي قاده رئيسها السابق إبراهيم رئيسي، الذي لقي مصرعه في تحطّم طائرة مروحيّة وبشكل يثير التساؤلات التي ترجح أنه تصفية داخليّة تؤكّدها السرعة الفائقة في إجراء الانتخابات، وانتخاب رئيس جديد معتدل، وها هي تترك سوريا وتتخلّى عنها، بما يشبه انسحاب الاتحاد السوفييتيّ من أفغانستان وانهيار الشيوعيّة من بعده،
ويبقى السؤال حول ما إذا كان انهيار نظام الأسد وهزيمة "حماس" وحركة " حزب الله" والأضرار التي لحقت بلبنان ووضعته على حافة انهيار إنسانيّ واقتصاديّ وسياسيّ وأضرار بحاجة الى نحو 50 مليار دولار لإعادة بنائه، ناهيك عن تعميق الشرخ الداخليّ حتى اقترب لبنان من عودة إلى صدامات عسكرية فئويّة، هو اللبنة الأولى في انهيار حجارة الدومينو التي ستصل طهران، لينهار نظامها أمام عقوبات اقتصاديّة دوليّة متواصلة ستشتدّ ربما بعد استلام دونالد ترامب مهام منصبه، وامام مطالبة 90 مليون إيرانيّ بحياة كريمة وحياة اقتصاديّة راقية وحريّة رأي وتعليم بعيدًا عن ولاية الفقيه التي تستعبد مقدرات الشعوب وتخضعها لخدمة أجندات لا تعود بالفائدة على الشعوب، بل تكرّس حكم قيادات ما تحاول نقل السلطة بالوراثة، كما تحاول القيادة الإيرانيّة اليوم أن تفعل عبر نقل منصب المرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة من علي خامنئي إلى نجله.
ما يتعلّق بإسرائيل ومقابل ما حدث يحتاج إلى تحليل موسّع وخاصّ، ولكن يمكن القول إنه ورغم أن حدودها مع سوريا ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار مع سوريا عام 1974، كانت الأهدأ على الإطلاق بخلاف التصريحات الناريّة السوريّة بقيادة حافظ الأسد الأب وبعده نجله بشار، حول المقاومة والممانعة والنضال حتى استعادة الجولان، وتحرير القدس وما شابه من تصريحات، كان مطلقوها على ثقة مسبقة أنها للاستهلاك الداخليّ،
دون القصد الفعليّ، ما يشبه كثيرًا تصريحات مماثلة من "حزب الله" المدعوم من إيران، هي رابحة بارزة ، حصلت على ما تريد دون عناء، حتى يمكن القول إن "حماس" وايران قدمتا سوريا والسيطرة على أجوائها ومائها وبرّها عسكريًّا، هدية على طبق من ذهب إلى إسرائيل ، لتنضم بذلك إلى غزة ولبنان، ما يخلق حالة تكون حدود إسرائيل البريّة مع غزة وسوريا ولبنان، لكن حدودها الأمنيّة الوحيدة هي مع تركيا والعراق ومصر مباشرة، وبالتالي وحتى لو قرّرت إسرائيل،
وكما قال رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو منتصف هذا الأسبوع البقاء في الشطر السوريّ من جبل الشيخ والمنطقة العازلة وفق اتفاقيّة العام 1974،بشكل مؤقّت أو دائم ، فإنها المنتصرة هنا، فقد ارتاحت من عبء المحور الإيرانيّ الذي ضمّ غزة ولبنان وسوريا، وخلفهم طهران واليمن والعراق أحيانًا، ومن أخطاره العسكريّة والسياسيّة، وحتى من كياناته بشكلها السياسيّ ، وقد تحوّلت إلى كيانات عاجزة وعرجاء تلهث قياداتها وشعوبها وراء توفير أبسط مقوّمات الحياة من رغيف الخبز والمسكن، وهي أول درجات سلم "ماسلو" المشهور، أما الازدهار الاقتصاديّ والحريّة والديمقراطيّة والتقدم العلميّ والأكاديميّ والإنسانيّ وحقوق الإنسان والمساواة، فيمكنها أن تنتظر.
خلاصة القول: أيام قليلة وينجلي غبار مظاهر الفرح الشعبيّ في سوريا والدول العربيّة، ليعود الناس إلى الواقع، ولكن المطلوب من القيادة الجديدة هناك أن تستفيق قبل شعبها، وأن تضع الأسس لمرحلة " ما بعد الأسد"، أو مرحلة اليوم التالي، وهي مهمة لا يجيدها القادة في الشرق الذين يكفيهم قوت يومهم دون تفكير ما يكون في الغد، وعليها أن تدرك أن سوريا أمام أحد أمرين لا ثالث لهما، فإما الدولة الحديثة الليبراليّة والديمقراطيّة قدر الإمكان والتي يشارك كافّة أبنائها وبسرعة في بنائها وتحصينها معتمدين بالأساس على ذاتهم مدركين أنهم دولة تحرّك مواقف الدول تجاهها مصالح وغايات في نفس يعقوب، وبالتالي عليهم الحذر والانتباه،
فالطريق إلى جهنم مرصوف بالنوايا الطيبة ظاهريًّا، وعليهم الحذر من أن تتحوّل "المحبّة العالميّة والعربيّة" إلى حجر رحى على أعناقهم، كي لا تتحوّل المعونات الماليّة والتي تعيد إلى الأذهان" أموال الدعم" التي حصل عليها الفلسطينيّون بعشرات وربما أكثر مليارات الدولارات دون بناء أبسط مقوّمات الكيان، ودون تحسين حالة المواطنين وحياتهم وبناء اقتصاد وتعليم، إلى وسيلة لمواصلة تعميق سيطرة القيادات والمقرّبين وخدمة مصالح وغايات الداعمين " فصاحب المال هو صاحب القول الفصل"،
وإما دولة انتهت دون رجعة ستتحوّل إلى دويلات، خاصّة إذا اعتمدت قيادتها الجديدة النمط الدينيّ السنيّ، ما ينذر بصدامات طائفيّة داخليّة، وصدام مع الجارة تركيا، وربما تكرار للحالة التي كانت حتى اليوم من محاولات إيرانيّة للسيطرة، .. وأخشى أن يكون الأمر الثاني، وبناء على التجارب التاريخيّة المريرة في الشرق الأوسط من ليبيا إلى السودان ومصر ومناطق السلطة الفلسطينيّة وغزة ولبنان والعراق، الأقرب إلى الحدوث.
والسؤال هل الشعب السوريّ يقذف نفسه في أتون حياة من أبأس ما يكون !!! وأخيرًا هل يعلم هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم القادة بأن "شرف الشعوب يبدأ بشرف الكلمة ... وشرف العمل وشرف المسؤوليّة ونظافة اليد ونظافة القلب واستعمال المنطق والعقل"؟