الانتقال من حُروب الدُوَل إلى حُروب المِلَل

بغضّ النظر عن الإجابات المتعدّدة للسؤال المتداول منذ أسابيع وأشهر، وفي الأسبوع الأخير خاصّة، حول ما إذا كانت إيران بقيادتها الخمينيّة المتديّنة من جهة، وإسرائيل بحكومتها اليمينيّة المتديّنة من جهة أخرى، تريدان أو تسعيان إلى التصعيد نحو حرب إقليميّة تخوضها إسرائيل في آنٍ واحدٍ معًا ضدّ "حماس" و"حزب الله" وإيران

12.10.2024 מאת: المحامي زكي كمال
الانتقال من حُروب الدُوَل إلى حُروب المِلَل

 

أي حرب تتضافر وتتحدّ فيها الجبهات في الشمال والجنوب والشرق والغرب، كما أرادت" حماس" منذ السابع من أكتوبر، دون أن يتحقّق ذلك، بل بقي أمنية فقط، أو  حرب إقليميّة تشارك فيها إيران و"حزب الله" و"حماس" والحوثيّون وغيرهم، تنشب جرّاء الردّ الإسرائيليّ على إطلاق الصواريخ البالستيّة الإيرانيّة على إسرائيل الأسبوع الماضيوهو ردّ اتّفق الجميع في إسرائيل والمنطقة والعالم وحتى في إيران على حدوثه،

 وتفاوتت تقديراتهم حول توقيته ومداه وأهدافه العسكريّة والصناعيّة وغيرها. ورغم ثقتي التامّة أن إيران هي أوّل المعنيّين بعدم نشوب حرب إقليميّة، لأسباب عديدة منها أن القيادة الإيرانيّة، رغم أصوليّتها وسياساتها الغيبيّة وتصريحاتها الناريّة،

والتي هي بعيدة عن الواقع وتجافي الحقيقة، تدرك أن ميزان القوى ليس لصالحها، وأن التفوّق العسكريّ الإسرائيليّ، ومعه وإلى جانبه التفوّق الاستخباراتيّ والدعم الأميركيّ والأوروبيّ، يجعل نتائج الحرب الإقليميّة واضحة ومعروفة مسبقًا، خاصّة على ضوء ما يُنشر من معلومات موثوقة حول نزوح مواطنين إيرانيين من العاصمة طهران، خشية ضربات جويّة إسرائيليّة، وربما بمساعدة ومشاركة أميركيّة، على مؤسّسات حكم ومبانٍ رسميّة إيرانيّة ومقرّات لقوى الأمن، وخاصّة قيادات "فيلق القدس"،

إضافة إلى ما يشهده لبنان، وهو جبهة هامّة وأساسيّة في أيّ حرب إقليميّة بفعل تواجد حركة" حزب الله" فيه، واستمرار نشاطها العسكريّ ضدّ إسرائيل، رغم تصفية قياداتها واحدًا تلو الآخر، وسط تسريبات تستند إلى معلومات لدى المخابرات الروسيّة(كي.جي.بي) تؤكّد وجود اختراق استخباراتيّ إسرائيليّ داخل القيادة الإيرانيّة، يمكّن إسرائيل من متابعة خطوات قادة" حزب الله" واغتيالهم، فإن مجريات الحرب الحاليّة المتواصلة على جبهتي غزة والحدود الشماليّة، وانضمام الحوثيّين وإيران إليها بين الفينة والأخرى،

ورفض قيادات "حماس" كافّة جهود الوساطة الدوليّة، حتى لو كان ذلك سيكلّف مواطني غزة المزيد من الضحايا والأضرار وإعادتهم سنوات إلى الوراء، وترحيلهم مرّة بعد مرّة بعد مرّة، وسيضطّرها هي أو من سيحكم القطاع بعدها إلى الاستعانة بدول العالم، واستجداء المال لإعادة الإعمار، ومواصلة حزب الله قصف شمال إسرائيل كجزء من "إسناد" قطاع غزة،

رغم ما يعنيه ذلك من هدم وضحايا في الجنوب وبيروت وغيرهما،  وإصرار حكومة بنيامين نتنياهو اليمينيّة وبضمنها أو ربما بالأحرى، بقيادة قطبيها من الصهيونيّة الدينيّة الاستيطانيّة، على مواصلة الحرب دون هوادة حتى لو كان ذلك، بثمن التنازل عن الرهائن والمختطفين، ومواصلة إخلاء مئات آلاف المواطنين من منازلهم في الشمال والجنوب، وتدهور الاقتصاد الإسرائيليّ وخفض التصنيف الائتمانيّ، واستمرار حالة عدم الاستقرار،

وما يرافق ذلك وعلى كافّة الجهات والجبهات، من تجيير للرواية الدينيّة المتطرّفة غير القابلة للمساومة، أو التفاهم والحوار، خدمة لأهدافها ومبرّرًا لمواصلة الحرب، يؤكّد ما سبق وقلته منذ أشهر، من أن القيادات في كافّة الجهات، حوَّلت ولأهدافها هي، هذه الحرب إلى حرب دينيّة بحتة، يتم فيها التضحية بكلّ ما هو مقدّس من حياة البشر ورفاهيتهم وحقوقهم، لتحقيق هدف" أقدس" وضعته القيادات وهو القضاء على الطرف الآخر، باعتباره الشرّ المطلق بفتاوى دينيّة ممجوجة، واستخدام نصوص دينيّة وتسييسها.

 


هنا وقبل الخوض في معاني ونتاجات ما سبق حول انتقال الحرب إلى مرحلة الحرب الدينيّة، لا بدّ من الإشارة إلى أن ما نشهده اليوم كان العنوان الذي كتب على الحائط وبالبنط العريض، طيلة أربعة عقود على الأقل، بل خمسة عقود بالتمام والكمال انتهت في السابع من أكتوبر عام 2023، وكانت بداياتها في السابع من أكتوبر عام 1973، حرب أكتوبر بتسميتها العربيّة، وحرب يوم الغفران بتسميتها الإسرائيليّة العبريّة، وهي التي كانت الحرب الأخيرة بين الدول شهدتها منطقة الشرق الأوسط،

والحرب التي اعتقد كثيرون بعدها أن ظلال السلام سوف ترفرف على ربوع المنطقة، وأنها ستصبح حقًا بلاد سلام وسمن وعسل. وأن اتفاقيات كامب ديفيد ستفتخ على مصراعيها أبواب السلام والطمأنينة، ليتّضح  أن تاريخ هذه المنطقة يأبى إلا أن يثبت للجميع ولمواطنيه أوّلا ، أنه خاصّ وفريد ومميَّز، وأن مخرجات الأمور ونتائجها تختلف عن غيرها من مناطق العالم، حتى وإن تشابهت المعطيات والظروف، فانتهاء حربٍ ما باتفاقيّات وقف لإطلاق النار،

سيعني في كافّة بقاع العالم السلام والهدوء، وحرب فوكلاند والحرب الأهليّة في يوغسلافيا السابقة مثال على ذلك. لكن في الشرق كما في الشرق، لم تكن نهاية الحرب هذه كما لم تكن اتفاقيّة السلام، بداية لمرحلة سلميّة توقّعها الجميع استنادًا إلى عِبر التاريخ ونتائج الحروب بين الدول والشعوب، بل بداية مرحلة جديدة انتقلت الحرب فيها من مرحلة الحرب بين الدول، أي بين إسرائيل والدول العربيّة، إلى مرحلة الحرب بين إسرائيل كدولة وبين منظّمات مسلّحة هي المنظمات الفلسطينيّة ،

وهذا ما انعكس من خلال العمليّة العسكريّة في الليطاني عام 1978، الذي تلا عمليّة استيلاء مسلّحين من منظّمة التحرير الفلسطينيّة على حافلة في شارع البحر، وبعدها حرب لبنان الأولى عام 1982، وصدامات مسلّحة أخرى ومن خلال انتفاضتين ضمن هذه المرحلة، انتهتا أو توسّطتهما اتفاقيّات أوسلو،

التي لم تؤدّ إلى هدوء أيًّا كان، انطلاقًا من رفض جهات فلسطينيّة وإسرائيليّة على حدّ سواء، أي اتّفاق يضمن حلولًا وسط وتنازلات متبادلة، كلّ من منطلقاته الدينيّة الضيّقة التي تعتبر في نظر "حماس" ، التي بادرت إلى عمليّات انتحاريّة وتفجيرات أفشلت الاتفاقيّات،  أرض فلسطين كلّها أرض وقف إسلاميّ لا حقّ للغير فيه ولا مكان لدولة إسرائيل ضمنها،

ولا حتى لليهود إلا بشروط الولاء التام والخضوع. وفي نظر اليمين الإسرائيليّ الدينيّ والاستيطانيّ المتطرّف اعتبار إسرائيل والضفة الغربيّة وحتى أراضي الدول العربيّة المجاورة أرضًا وعد الله بها شعب إسرائيل تتفق وحدود أرض إسرائيل التاريخيّة أو التوراتيّة، وبالتالي يحظر التنازل عن أيّ شبر منها، بل إن من وقع هذه الاتفاقيّات ينطبق عليه عقاب من يسلم أر ض إسرائيل للأغراب، وهذه خيانة عقابها الموت. وانتهت إلى مقتل إسحق رابين وصعود اليمين برئاسة بنيامين نتنياهو الذي أعلن منذ معركته الانتخابيّة الأولى "أنه جيّد لليهود" مضيفًا أن اليسار الإسرائيليّ الداعي إلى السلام "نسي معنى اليهوديّة"، في تعبير شكّل كما يتّضح اليوم، انتقال الصراع إلى مرحلة جديدة تبدّلت فيها الحروب بين الدول إلى حروب بين الملَل والديانات ، وتحديدًا بين اليهود والمسلمين.

 


في هذا السياق، لم يكن الوصول إلى السابع من أكتوبر عام 2023 وما تلاه مفاجأة، بل ختامًاـ أو خاتمة لمرحلة تمّ فيها تسييس الدين، ونقل الصراع إلى مستوى الديانات، تمّ في إسرائيل عبر تعزيز الرواية الدينيّة اليهوديّة وزيادة قوّة ممثّلي الأحزاب الدينيّة في البرلمان، وامتلاكهم بعد جهود استمرت سنوات زمام القيادة في الجيش والشرطة والمخابرات (رئيس الشاباك يورام كوهين، ومفتش عام الشرطة روني الشيخ) والاقتصاد واستلام مناصب وزارية وميزانيّات طائلة تمّ استثمارها في تعزيز الاستيطان والمستوطنات،

ورفض للانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة، ومحاولات لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، وغيرها من النشاطات، وبالمقابل تعزيز الرواية الدينيّة في الجانب الفلسطينيّ، عبر ازدياد قوّة حركة "حماس" وسيطرتها عام 2007 على قطاع غزة، وطرد حركة "فتح" والسلطة الفلسطينيّة، وتحويل القطاع إلى كيان منفصل تسيطر عليه حركة دينيّة مسلّحة تنتمي إلى تيار " الإخوان المسلمين" تؤمن بالجهاد طريقًا، وتؤكّد عبر ميثاقها الذي تم تعديله ،

أن فلسطين كلها حقّ لها، وأن الجهاد سيتواصل حتى تحرير آخر شبر منها، دون كيان يهوديّ، أو وجود لليهود، وعبر محاولة فرض المبادئ الدينيّة المتزمّتة المتعلّقة حتى بالحياة الخاصّة، وحريّة الفرد على كافّة المواطنين، واعتبار الجهاد الفرض  الدينيّ الأوّل والواجب والأهمّ، والذي تهون من أجله كافّة التضحيات بالحياة والصحّة، هذا مع استخدام العبارات الدينيّة وتسييسها، وهو ما تزامن، مع قصد أو بدونه، مع تعاظم قوة "حزب الله" في لبنان وتحوله، خاصّة بعد حرب لبنان الثانية عام 2006، من حركة دينيّة مسلّحة بأسلحة خفيفة وصواريخ قصيرة المدى ، إلى حركة تملك عشرات آلاف الجنود، ومئات آلاف الصواريخ الدقيقة والمتطوّرة وبعيدة المدى،

وطائرات مسيَّرة وأنفاق تمّ حفرها ، ربما بوحي ما فعلته حركة "حماس" في غزة، ناهيك عن سيطرتها التامّة على الحياة السياسيّة في لبنان، وتحوّلها إلى بيضة القبان في المرحلة الأولى، في قضيّة انتخابات البرلمان ورئاسة الدولة، ثم العامل الذي يحدّد ويقرّر ، وصولًا إلى فراغ دستوري طويل، وجيش ثانٍ ينشط في الجنوب بمعزلٍ عن الجيش النظامي ، كما ينشط في سوريا بأوامر واضحة من إيران، وانتهاءً بيومنا هذا الذي تقف فيه دولة لبنان ، بانتظار مصيرها الذي تحدّده طهران دون علاقة بما يريد اللبنانيّون، بل خدمة لولاية الفقيه والثورة الخمينيّة، في تضافر للجبهات ضمّت فيه إيران، حركتين مسلحتين ، الأولى "حماس" السنيّة والثانية "حزب الله" الشيعيّة، مقابل إسرائيل اليهوديّة.

 


وإذا كان هذا لا يكفي، اتّضح صدق ما قلت حول اندماج إسرائيل بشكل كامل في الشرق الأوسط الذي حرقته نيران الربيع العربيّ، خاصّة من حيث الانجراف التامّ نحو التزمّت السياسيّ والدينيّ والعقائديّ، وأحيانًا الغيبيّ، خاصّة بين الطوائف اليهوديّة الشرقيّة  القادمة من الدول العربيّة، والتي انضّمت ومن منطلقات ائتلافيّة وحزبيّة وسياسيّة إلى الأحزاب الدينيّة المتزمّتة الغربيّة، ومنها "يهدوت هتوراة "و "ديغل هتوراة "وحركة "شاس" اليهوديّة الشرقيّة التي نحت باتّجاه التطرّف، بعد رحيل مؤسّسها الحاخام عوفاديا يوسف،

، والأنكى من ذلك إلى الأحزاب الصهيونيّة الدينيّة المتزمّتة التي تسعى إلى إقامة دولة الشريعة اليهوديّة، أي دولة اليهود فقط، التي تسود فيها شريعة التوراة في كافّة مناحي الحياة، وليس الأحوال الشخصية فقط. ويصبح المواطنون غير اليهود فيها أقليّة من الدرجة الثالثة وأغيارًا لا حقوق لهم، بداية بحكم قانون القوميّة، ثمّ اعتبارها دولة يهوديّة ودولة لليهود، يُطالب فيها العرب بالولاء. وكلّ ذلك وسط تضاؤل لقوّة المعتدلين واليساريّين، واتّجاه نحو سيطرة الأحزاب الاستيطانيّة على الحكومة ووصولها إلى مرحلة تملك فيها مفاتيح، بقاء أو سقوط الائتلاف والحكومة، وبقاء نتنياهو على عرشه، وبالتالي جرّه برضاه يقينًا إلى اعتبار هذه الحرب، حربًا دينيّة ضدّ العمالقة، وتسويق ودعم ذلك بآيات من التوراة وحديث عن أن "حماس" تريد إبادة اليهود ودولة اليهود وحديث عن "كارثة ثانية" ومن هنا ربما رغبته في تغيير اسم هذه الحرب من " السيوف الحديديّة" إلى "حرب النهضة"، في إشارة إلى ما اعتبره اليهود نهضتهم من براثن النازيّة، وإقامة وطنهم القوميّ.

 


حقيقة الأمر هنا، ورغم قسوة ما سأقول وربما شدّته، أن الائتلاف الحاليّ برئيسه وبحكومته التي ترسم سياساتها أحزاب وقيادات استيطانيّة ودينيّة يمينيّة متزمّتة، تتصرّف مقابل  "حماس" و"حزب الله" وحتى إيران بنفس التعصّب الدينّي والتزمّت الفكريّ، والمواقف الخلاصيّة المسيحانيّة . فكلّ هذه الأطراف تبدو اليوم وكأنها تعمل فقط على تقديس الموت والشهادة ، وتنفي صفة الإنسانيّة بأبسط معانيها عن الغير،  وتعتبره يستحق الموت، أو كائنًا حيًّا لا إنسانيّة فيه، أقصى ما يمكن أن يصله هو درجة العبوديّة، أو مكانة اللاجئ معدوم الحقوق، يجوز قتله وإبادته، بل إن ذلك فريضة، يتمّ تسويغها بعظات ومواعظ من رجالات الدين الذين يدركون أن فتاواهم تنضح سياسة،

وأنها بعيدة عن القيم الإنسانيّة للديانات السماويّة،  حتى أنه أصبح من الصعب بمكان التمييز، أو التفريق بين تعصّب بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وأوريت ستروك وأعضاء متديّنين خاصّة من الليكود وضبّاط في الجيش، وتعصّب حسن نصر الله ومن سيخلفه وتعصّب يحيى السنوار، بل تعصّب علي خامنئي، فهم جميعًا يعتبرونها حربًا دينيّة ، تتلاشى وتختفي فيها حسابات الربح والخسارة، أو النصر والهزيمة، أو عدد القتلى وحجم الدمار، فكلها عوامل ثانويّة وغير هامّة، بالنسبة لهم مقارنة بفريضة" الجهاد" وتحرير فلسطين واستردادها كوقف إسلاميّ، ومقارنة بفريضة محاربة العمالقة وفق التوراة اليهوديّة، والعجائب التي فعلها الله ومكّنت الجيش الإسرائيليّ من تحقيق الانتصارات،

ومنع إصابات جنوده ووقف مسلّحي "حماس" عن مواصلة اجتياح إسرائيل كلّها. وهي أحاديث تصدر عن قيادات في الجيش ووزراء في حكومة إسرائيل، يرفضون أيّ احتمال لوقف الحرب،  قبل إخضاع حركة "حماس" وتحقيق انتصار توراة إسرائيل وشريعتها، حتى لو كان ثمن ذلك الموت والخراب، وحتى بقاء أبنائهم رهائن ومختطفين في قطاع غزة، فهذا فداء لإسرائيل، وتضحية ملائمة، بل إنقاذ لليهود والعالم ودولة اسرائيل.

 

 
لم يكن انتقال الشرق الأوسط من الحروب السياسيّة والعسكريّة إلى تلك الدينيّة صدفة، بل إنه تضافر واجتماع لأحداث تجدر مراجعتها والوقوف عندها، ليس من باب نظريّة المؤامرة، والحديث عن " أيادٍ خارجيّة"، بل من باب مراجعة الحسابات ونقد الذات، والإشارة إلى ظاهرة العمى، أو التعامي عن أخطار التزمّت الدينيّ، وعدم النظر بجديّة إليها، وليس ذلك فحسب، بل التغاضي عنها، والاكتفاء بإنجازات آنيّة وشعبويّة ترضي القيادات، ويتم تسويقها أمام العامة على أنها النصر المبين والعودة إلى الجذور، وضمان مصلحة العامّة والفقراء، والحرب ضدّ الظلم والغزاة والغرب، أو الشيوعية. وكلّها ظواهر شهدها الشرق الأوسط خاصّة والدول الإسلاميّة عامّة، أكّدت صحّة النبوءة بأن القرن الحادي والعشرين سوف  يكون دينيًّا، أو أنه  لن يكون،  قد أعلنها  الأديب الفرنسيّ  أندريه مالرو،

أحد المقرّبين من القائد الفرنسيّ الفّذ شارل ديغول، ووزير الثقافة بين السنوات 1959-1962،  وهي نبوءة فضَّل الجميع تجاهلها، رغم الشارات التي كانت مكتوبة على الحائط، ورغم سلسلة من الأحداث والتطوّرات كان من الواضح أنها ستؤّدي بالشرق الأوسط والدول الإسلاميّة خاصّة والعالم عامّة، إلى " ردّة دينيّة" ، كانت البداية من  إيران التي انتهى فيها حكم الشاه محمد رضا فهلوي، بموافقة أوروبيّة ودعم من فرنسا، بلد العلمانيّة والليبراليّة والحريّات، التي كانت احتضنت الإمام الخمينيّ   الذي عاد منتصرًا إلى إيران ونفَّذ ثورته الإسلاميّة الخمينيّة،  فأعادها من مصاف الدول المتقدّمة ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا والمنفتحة على العالم، بما في ذلك إسرائيل، إلى دولة معزولة ومنبوذة تحارب الجميع،

وتحتجز موظفي السفارة الأميركيّة رهائن وتحارب العراق السنيّ لمدّة ثمانية أعوام دون سبب يذكر، وصولًا إلى يومنا هذا من حركات مسلّحة تابعة في اليمن والعراق ولبنان وسوريا وغزة، ناهيك عن أن ذلك الحدث، أي  الثورة الخمينيّة  الشيعيّة عام 1979، تزامنت مع تعاظم قوة تيّارات إسلاميّة مسلّحة ساهمت في خروج قوّات الاتحاد السوفييتيّ من أفغانستان بعد سنوات قليلة من ذلك، وانتهاء ذلك عام 1989. وفي هذه الجزئيّة   لعبت أميركا ودول في الشرق الأوسط، وفي مقدّمتها المملكة العربيّة السعوديّة،

دورًا مهمًّا في دعم الحركات المسلّحة التي أطلقوا عليها اسم "المجاهدين" ماليًّا وبشريًّا، وتسليحها  لمحاربة الاحتلال السوفياتيّ من منطلق أيديولوجيات دينيّة، اعتبرت احتلال أفغانستان من قبل الاتحاد السوفييتيّ حربًا بين الكفر والإلحاد وبين الديانة الإسلاميّة. وهو دعم وصل ذروته بقيام أو إقامة، وهذا أصحّ وأدقّ،  حركة "طالبان"،

وبروز نجم أسامة بن لادن، وهو سعوديّ من إحدى العائلات الثريّة والمقرّبة من العائلة الحاكمة، ضمن الحركة التي تنتمي إلى تنظيم " الإخوان المسلمين"، وعنه ومنه خرجت حركات وفصائل متزمّتة ومتطرّفة دينيًّا وعقائديًّا منها "القاعدة" ثم "داعش" رفعت راية السعي  إلى إقامة دولة الخلافة، ومنها أيضًا حركة "حماس" التي وزّعت بيانها التأسيسيّ في 15 كانون الأول عام1987، خلال الانتفاضة الأولى بالتزامن مع تزايد الأدلّة على هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وعلو كعب المسلّحين من الحركات الدينيّة الإسلاميّة،

وميثاقها الذي يعتبر أرض فلسطين كلّها وقفًا إسلاميًّا ووعدًا إلهيًّا، ووصول هذه التوجهات إلى أجزاء من المواطنين العرب داخل إسرائيل، الذين يغلّبون انتماءهم الدينيّ على ذلك القوميّ والمدنيّ، عبر حركات وتيّارات إسلاميّة، ثم نمو حركة "حزب الله" اللبنانيّة واكتساحها شقيقتها المعتدلة حركة " أمل"، وبعدها مع بدايات القرن الحادي والعشرين ، ارتفاع أسهم "الاخوان المسلمين" في مصر وصعود الرئيس محمد مرسي، بعد تنحّي حسني مبارك ومطالبات أميركا باراك أوباما، بديمقراطيّة في مصر،

وإلى ذلك يضاف الشقّ الإسرائيليّ من حيث التحوّل الذي شهدته الصهيونيّة، من حركة علمانيّة أوروبيّة ليبراليّة غربيّة النزعات، مع إقامة دولة إسرائيل كوطن قوميّ لليهود الناجين من براثن النازيّة، إلى ما نشهده اليوم خاصّة، ومنذ تسعينيات القرن الماضي أو حتى سبعينيّاته ، من تنامٍ للصهيونيّة الدينيّة الاستيطانيّة التي لا تعتبر دولة إسرائيل، كيانًا سياسيًّا فقط، بل إنها تنفيذ لوعد دينّي توراتيّ، كان الله، حسب معتقدات الصهيونيّة الدينيّة والحركات الخلاصيّة والاستيطانيّة، قد وعد به  إبراهيم الخليل ، ملخّصه منح الأرض الممتدّة من الفرات إلى النيل له ولذريّته من بعده، بحسب "سفر إشعيا ، وكلّها، وبغضّ النظر عن الجهات التي ساهمت ودعمت، وعن التعامي والتجاهل، انسياق وراء غيبيّات وشعارات غوغائيّة وفتاوى دينيّة المظهر سياسيّة المضمون والجوهر،

لا أساس لها ومن كافّة الأطراف سابقة الذكر، مع تفاوت حجم المسؤوليّة والمساهمة.  وهذه مجتمعة أمور أعادت الشرق الأوسط إلى حقبة اعتقدت البشريّة المتحضّرة والمتنوّرة أنها تجاوزتها، بفعل الديمقراطيّة والحريّة واستقلال الدول ليس في أوروبا فقط، بل في الشرق وأفريقيا أيضًا، بعد  ملاحقات القرون الوسطى في أوروبا،  والحربين العالميّتين، فعادت إلى خانة الحروب المقدّسة، أو العادلة، رغم حقيقة أن ليس هناك حروب مقدّسة ولا عادلة، لكنّها حروب نجح السياسيّون في تسويقها وشرعنتها.

 


ليست هي المرّة الأولى التي يتمكّن سياسيّون وقادة وزعماء فيها، من تطويع لغة الخطاب والتصريحات لجعل أنفسهم يمثّلون أمّة  ودينًا، وليس شعبًا أو دولة، فتتحوّل كافّة قراراتهم مهما كانت نتائجها إلى قرارات جمعيّة وجامعة، يتحدّثون بلغة نحن، يلغون الفوارق بين " أنا" وبين "نحن" كما جاء في كتاب  " الأمير" لمؤلفه نيكولو ميكيافيلي ، حول  أن الحرب ربما تكون خدمة لسياسات القادة ومصالحهم، حين قال  إنه يجب أن لا تكون للحاكم ( الأمير) غاية أو فكرة سوى الحرب، وأن الدين ضروريّ للحكومة لا لخدمة الفضيلة، ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس، وأن الأمير  العاقل ينبغي له حين تأتيه الفرصة أن يثير العداوة بدهاء حتى يزيد عبر قمعها من عظمة نفسه، وهو ما شهده التاريخ والأمثلة كثيرة، فنابليون بونابرت اعتاد استخدام عبارات جمعيّة وجماعيّة، ليزيد من عظمة نفسه،

وليبرّر غزواته وحروبه، متحدّثًا عن " جيشنا" أو " إمبراطوريّتنا" ، أو "مستقبلنا" بشكل ألغى الفارق بينه وبين الإمبراطورية الفرنسيّة، أما فلاديمير بوتين فتحدّث مبررًا غزو أوكرانيا مستخدمًا عبارات مشابهة منها" تاريخنا وتضحياتنا وعظَمتُنا"،  وصولًا إلى ما نحن عليه اليوم من تصريحات في غزة ، بنفس الروح،

بدءًا من تسمية السابع من أكتوبر عام 2023، بإسم طوفان الأقصى، والحديث عن استرداد للأراضي الوقفيّة الإسلاميّة ، ونصر للمقاومة الإسلاميّة وليس الفلسطينيّة، وتحرير للمقدسات وهزيمة اليهود، وحديث في لبنان وحزب الله تحديدًا باسم الأمّة الإسلاميّة والعربيّة، وكذلك في طهران، وإسرائيل في نفس الخانة، فهي تعيش حالة من تجيير المصطلحات الدينيّة لصالح استمرار الحرب وتديينها ، أي صبغها بصبغة دينيّة، منها أنها حرب ضد العمالقة، وضد من أرادوا باليهود شرًّا، أو يريدون طردهم من أرض الميعاد التي وعدهم الله بها،

ودعوات صريحة إلى العودة للمطالبة بأرض إسرائيل التوراتيّة بما فيها لبنان أيضًا، واستخدام نصوص دينيّة بدلًا من التوجيهات والأوامر العسكريّة، لتسويغ حرب حولها السياسيّون إلى دينيّة لتبرير وشرعنة كلّ ما يجري فيها من قتل متبادل ودمار كبير، ومنعًا لأيّ محاولة عقلانيّة للحديث عن وقف لها، ومنع لاتّساع نطاقها ومخلّفاتها، أو حجم الخسائر فيها والضحايا والإصابات، فكلّها اعتبارات لا مجال لها في الحرب بين الديانات ، لأنها حروب تنتهي في نظر المبادرين إليها والمشاركين فيها، فقط عند إبادة الجهة المقابلة، والقضاء عليها جسديًّا أو إخضاعها.

 

أما الضحايا فهم وقود هذه الحرب باعتبارهم شهداء في نظر طرفي المعادلة، اصطفاهم الله، في الطريق إلى تحقيق النصر الدينيّ، وإعلاء شأن الدين، وهي في الحقيقة غير ذلك، بل مبررات غوغائيّة وغيبيّات ومبرّرات لتسويغ توجّهات سياسيّة، ومنع أيّ إمكانيّة للمعارضة، أو التحفّظ، أو الثورة ضدّ هذه الحرب، ليكون الردّ في حالتنا اليوم، الفرح بالاستشهاد وتمجيده من "حماس" و"حزب الله" وربما السير على هداهم، واعتبار هم في حالة اليمين الصهيونيّ بمثابة أن الله يستردّ وديعته، وطلب من الله أن ينتقم للقتلى.

 


ختامًا أقول، لا قيام ولا بقاء لجماعة أو أمة ،أو دولة تؤمن بالغيبيات وتسير على هدى وخطى الحرب الدينيّة، أو الحرب بين الديانات ومعاداة ديانات أخرى، وتجيِّر لذلك كافّة المقدرات الماليّة فتفضل التسلُّح والسلاح والخنادق والبنادق ،على حياة شعبها ورفاهيته، وتغلِّب مصلحة قياداتها وبقائها على حياة أبنائها، فتقبل باستمرار الحرب متجاهلة ما تعنيه من موت وخراب ودمار، ما دام ذلك يفيدها، تستخدم الدين سترًا وغطاءً لأهداف شخصيّة وحزبيّة،

تكون حياة المواطنين ثمنها. وعودة إلى ميكيافيلي الذي لخّص تسييس الدين وتجييره لتبرير الحروب للمصالح الشخصيّة، حيث قال:"  لا شيء أشدّ ضرورةً من أن يتظاهر الأمير ( الحاكم) بالتديّن، فالناس عامّة يحكمون بما يرون بأعينهم أكثر ممّا يحكمون بما يلمسون بأيديهم، لأنّ كلّ امرئ يستطيع أن يرى،

ولكن قلّة قليلة تملك أن تلمس ما أنت عليه"، وبكلمات أبسط، الأخطر ، وهذا هو الوضع الحاليّ والحرب المستمرة والتي قد تتّسع رقعتها وتشتدّ خطورتها، ويزداد ما تجبيه من دماء ودمار وخراب، هو تظاهر القيادات بالتديّن وانتهاجها الخطاب الدينيّ الغيبيّ والغوغائيّ للتغطية على أعمالها، وتسويغ أجنداتها وأهدافها وإقناع العامة، وبنجاح كبير،

لمزيد الأسف في حالتنا اليوم، أنها تعمل لصالحهم ومن أجلهم، وتعزيز التوجّهات المتطرّفة والمتزمّتة والغيبيّة والعنصريّة والإقصائيّة، وإبعاد أيّ إمكانيّة للسلام والأمن والعيش الكريم، وحتى لو كانت هذه القيادات وربما مع سبق الإصرار والترصّد، السبب في حرب الديانات والمِلل، بدل الحروب التي اعتدناها سابقًا بين الدول.

תגובות

מומלצים