الشيخ حسين علي احمد حلبي المعروف "بالشيخ العابد" رحمة الله عليه
اردت ان القي الضوء على جوانب اخرى من حياة الشيخ العابد, شيخنا الطاهر الذي ترك كل ملذات الدنيا ونعيمها من مأكل ومشرب ومتع نفسية وجسدية وكرس حياته لعبادة الله.
عندما ننطق باسمك يا شيخنا العابد لا يمكننا ان نحصر عبرة تسقط رغما عنّا، ربما بسبب جهلنا وتقصيرنا وانغماسنا في هذه الدنيا الفانية وفي حطامها، فيما كنت تنعم بالسعادة الحقيقية ألا وهي العبادة والتقرب من الله عز وجل. فإذا لخصنا عقيدة التوحيد نقول ان الموحد خلق لهدف واحد هو عبادة الله والخضوع والخشوع له. ثم الرضى والتسليم في فيما كتب للإنسان من خير او شر دون معارضة لحكم الله. وأنت يا شيخنا الجليل طبقت ما تنصه نظرية التوحيد قولا وعملا فهنيئا لك ذلك.
انا لست الوحيدة التي كتبت عن شيخنا التقي النقي الورع الطاهر الشيخ العابد، فقد سبقوني ذوو الفضل في ذلك. لكنني اردت ان القي الضوء على جوانب اخرى من حياته. فقد يصل الانسان في حياته لمراتب دنيوية عديدة، قد يكون عالمًا، وقد يكون بروفيسورا في موضوعه، وقد يكون طبيبا او مهندسا؛ لكنه لن يحظى بما حظي به الشيخ العابد، فقد دون اسمه في تاريخ دالية الكرمل ليكون علما من اعلامها الذين نعتز بهم. وعقيدة التوحيد تعتمد اساسا على هذه النظرية.
فمهما وصل الانسان من مراتب عالية في الدنيا فانه لن يكون افضل ممن يجمع النفايات لأنهما سيتساويان تحت التراب، ولن يعلم احد ما في نفسيهما من خير او شر إلا الله. فما فضل للموحد الدرزي على اخيه الموحد إلا بالتقوى والعبادة ومخافة الله وكف الاذى عن الغير. ثم ان إحياء ذكرى السلف الصالح بين الحين والآخر له فائدة كبيرة، فهو يبعث الخير في النفوس وتحل البركة على اهل القرية من جديد. فان مات الصلّاح يبقى ذكرهم عطرا ونورا نستضيء به. وحري بكل انسان منا- نحن الموحدون الدروز - ان يعرف ان العبادة والتوحّد وترك الدنيا وملذاتها ليست من صفات الاقدمين الذين تروى قصصهم على مسامعنا، وإنما في عصرنا هذا عصر الظلمات، هناك من يسلك مسلك العباد الصالحين الزاهدين في الدنيا؛ ليسموا بأنفسهم الى مراتب الانبياء الاطهار.
هل يستطيع كل انسان ان يتحكم بنفسه ويعذبها ويروضها على الذل اكراما للخالق عز وجل؟ واعني بالذل المذلة لله وليس للعبد. فان في ذلك قوة ارادة وتصميم وعزم لا يقدر عليها ضعاف النفوس وإنما الذين ايمانهم بالله يفوق كل توقع. لقد ترك شيخنا الطاهر كل ملذات الدنيا ونعيمها من مأكل ومشرب ومتع نفسية وجسدية وكرس حياته لعبادة الله. فقد عاش في بيت ناء عن القرية لا يأتي اليه إلا القاصد، وما اكثر الذين قصدوه طالبين ان يرشفوا من منهل معرفته التي خصه الله بها دون سواه. فقد تعلم على يديه الكثيرون من المشايخ الأفاضل، كان يعلمهم اصول الدين ويشرح لهم اسراره وقد نشأ جميعهم على الدين مثله ولكن ليس بنفس الدرجة. فقد كان مدرسة توحيدية تفيض علما ومعرفة على كل من حوله.
لقد ولد الشيخ العابد التقي النقي الورع الطاهر حسين علي احمد حلبي سنة 1902 وكان والداه متدينين، فكان يستمع الى المشايخ عند الصلاة، فولع بهم واشترك في مجامع الذكر وقلدهم في كل ما يرشده الى الله عز وجل. ولما بلغ سن الرشد بنى له بيتا صغيرا عبارة عن غرفة واحدة بالقرب من بيت شفيق قاسم حلبي بجانب الخلوة المتواجدة هناك، لتكون له خلوة بعيدة عن بيوت القرية يتعبد فيها بعيدا عن العيون الفاحصة منفردا مع الخالق عز وجل. وبدأ ينهل من المعرفة التوحيدية ليلا ونهارا منكبا على درسه خائفا من ربه مقبلا اليه بقلبه ولبّه وكيانه. تاركا الدنيا بما فيها للراغبين بها. ثم انه في شبابه وحتى مماته لم يجر على ذقنه بموس ابدا. لم يحمل شيخنا هوية في حياته، لأنه يعلم ان الارض ملك لله وليس العبد فيها إلا بزائر، وكذلك امتنع شيخنا الورع عن الانتخابات والسياسة.
يروى عنه رحمه الله، انه عندما كان يعيش في بيته الاول الذي بناه لنفسه، كانت تعيش معه افعى تأكل من اكله وتنام تحت وسادته، وفي يوم من الايام قاموا بقتلها بعد ان حذرهم مرات عديدة من عدم الاقتراب منها. لم يرق له ذلك، فترك المكان وانتقل الى بيت جديد ليسكن مع والدته، في مكان بعيد عن القرية وكان يقوم على خدمة والدته برضى وقبول. بالإضافة لقصة الحية فقد خاف الشيخ العابد ان يشغله من حوله ويلهونه عن عبادة الله، لهذا السبب ايضا قرر ترك منزله والسكن في بيت ناء بعيد عن القرية وعاش في عزلة عن الناس مع والدته، يزرع ارضه ويأكل من خيراتها، فكان يبيع العسل والتفاح والسفرجل والعنب بأسعار زهيدة ويشتري ما يحتاج هو ووالدته من حاجات المنزل. وقد اقتنى ايضا بعض الدجاج ليستفيد من بيضها ولحمها. لم يتزوج الشيخ العابد لأنه حرم على نفسه متع الحياة الدنيا وما اراد سوى طلب الآخرة والتقرب من الله، فقد عاش الشيخ العابد في خلوته طامعا في العبادة ورضى الله والتقرب منه بعيدا عن الجاه والرياء.
ما زلت اذكر تلك الايام عندما كنت صغيرة، فقد كانت امي رحمها الله ترسلني برفقة اخي لزيارة الشيخ مرة في الأسبوعين، ولا اذكر بالضبط لأي غرض. ما اذكره هو سعادتي الكبيرة التي كنت اشعر بها عندما تخبرنا بواجب زيارة الشيخ الطاهر. لقد كنت امشي على الاقدام مسافة كبيرة في اتجاه حارة "وادي الفش" . وبعد النزول في الوادي كنا نصعد الى اواسط جبلة مقابلة لوادي الفش فنصل الى بيته. هذه الذكريات لا تفارق مخيلتي، يبدو انه كان لها وقع خاص في نفسي. ما زلت اذكر بيته والغرفة التي كان يسكن فيها فقد كانت عبارة عن مأوىً فقط، لم يكن بها سوى سرير واحد او حتى فرشة، وكانت خالية من كل شيء اللهم من جرة ماء كبيرة في الزاوية. وكان يرتدي سروالا ابيضا وثوبا ابيضا ويلبس قبعة على رأسه. هذا ما اذكره لا ادري اذا خانتني مخيلتي في بعض المعلومات.
لقد كثرت القصص حول شخصية الشيخ العابد وقد استمعت الى بعضها من اقربائه: يروى عنه انه كان يزرع كروم العنب وقد كان يبيع عنبها ويشتري ما يحتاجه له ولوالدته، لكنه حرم على نفسه أكلها، فلم يذق طعمها لان منها يصنع الخمر الذي حرم الله شربه.
يروى عنه ايضا انه كان ينتظر حتى يجف الخبز وأحيانا يعلوه العفن، فينفض ما علق عليه ويأكله حتى يعذب نفسه ويحرمها متعة الخبز الطازج. فما من احد يستطيع ان يقهر هذه النفس كشيخنا العابد رحمه الله.
ويروى عنه رحمه الله، انه تقبل فقدان ابيه بصبر كبير، وكذلك فقدان امه. لأنه يعلم ان الموت علينا حق، وان الرضى والتسليم بأمر الله عز وجل هو نهاية العلم والمعرفة. فالإنسان لا يستطيع إلا ان يرضى بما قسم الله له. ومن يصبر على قضاء الله وحكمة لا شك انه من صفوة الصالحين. فروي عنه أنه عندما توفيت والدته التي كان يرعاها ويخدمها، ذبح في اليوم الثاني دجاجة و"دق منها الكبة" وعندما سألوه عما هو فاعل أجاب: "ان الحداد يكون يوما واحدا فقط فوق رأس الميت، وأنه على الانسان ان يرضى ويسلم بما كتبه الله له من خير او شر".
يروى عنه ايضا انه كانت تعيش معه افعى كبيرة، كانت تنام تحت وسادته فلم ينهرها او يزعجها وفي يوم من الايام جاءت اليه اخته لتزوره فصادفتها ففزعت وهمت بقتلها لكنه منعها من ذلك واتجه نحو الحية وقال لها: " سيري يا مباركة" فتركتهم وذهبت لحال سبيلها.
لقد سمعت الكثير من الروايات التي تؤكد ان اشخاصا كثيرين رأوا نورا منبعثا حول الشيخ اينما ذهب وخاصة في اليوم الذي توفي به اخوه وفي اليوم الذي توفي به ابوه ايضا. فعندما كان الرجال متجهين نحو المقبرة، شوهد ضوء منبعث منه دون غيره من الرجال.
لقد توفي الشيخ العابد يوم الجمعة في الثالث عشر من تشرين اول سنة 1978 ودفن جثمانه الطاهر العفيف في بيته في حارة "وادي الفش"، وما زال الزوار يؤمون المكان للتبرك من عطر روحه الطاهرة. هنيئا لك يا شيخنا النقي العفيف الطاهر الشريف بما حصّلت، وهنيئا لقريتي دالية الكرمل لأنها حظيت بك، وبوركت بك جنة الخلد فلمن تكون الجنة اذا لم تكن لك؟